لوحات سنا الأتاسي ترسخ دلالة المكان وسحر إيقاع الألوان
ريشة تصنع مشهداً جمالياً وثورياً متمرّداً على السائد
بغداد - رياض ابراهيم الدليمي
تجسد سنا الأتاسي في تكويناتها إناثا وقصصا وملاحم ومرويات كرموز دالّة على الصمود والمثابرة ضد أعاصير التحديات وجنون الآلة والتّقنات وتبدد المفاهيم الانسانية التي رسخت السلم العالمي وحقوق الانسان ، كما جاء في اللوائح الأممية منذ عقود وكما زعمت ، الا أن المرأة وجدت نفسها أكثر غربة وعزلة ووحدة وخوف وتهميش واستغلال ، وكأنها تعيش في عصر الرقيق والعبودية ، وفي هذا الصدد لقد صورت لنا الأتاسي رؤيتها والمسلمات التي تؤمن بها بأن المرأة كما جسدتها في مجسماتها كآلهة للجمال والجبروت ، وأنهن إناثا وطئت أقدامهن بكل جبروت وكبرياء وحكمة ليحكمنّ أرض روما ويبسطنّ سلطانهنّ على ما وسعت أرض الشمال والجنوب وكيفما أرادت بوصلاتهنّ أن ترمي وتخطط وترهن المدن كنجوم هاديات إلى حدود مملكاتهن .
الفنانة الأتاسي في مختلف أعمالها تجسد تلك الأنثى ذات الملامح الشرقية عبر التاريخ ، لتحمل غص زيتون وترتدي فستانها الجلنّار وتلبس شالها الذي يلفُّ جسدها بوصفها حورية من حوريات المملكة التي تصنعها هي وفق مشيئتها ، فتبدو كرّمة في فم ملاك .
الأنثى كنص بصري قصدي فبجمالها وجبروتها ونظراتها كعيون صقر تلتفت بازدراء لمن يحاول أن يتسلق أسوار البلاد العتيق المتجذرة بالأرض والتاريخ .
تغدو أنثى الأتاسي التي صورتها ذات قامة وهيبة لن تنحني ولن تنكسر أمام العاديات ،ولن تخلع فستانها الجلّنار ولن تغمض عينا أو يرتجف لها جفن مهما حاصرتها المنايا .
إنها سليلة التاريخ ووارثة المجد منذ الألف الثالث قبل الميلاد ، فهي محاطة بإرث عظيم من مملكة تدمر وحمص وحلب والشام .
ملامح اِناثها لا تشبه ملامح الغزّاة والمارّين بطرقها والمتفيئين بفساتين عنبّها وأرّزها والتي تفتح أحضانها للزائرين والضيوف ولكنها عصيّة على الطامعين فيها.
اِناث الأتاسي سنا تصورهنّ لا يشبهن باقي الإناث ، هنَّ حرائر ذات عنفوان ينحدرن من سلالات الحضارات .
إنها فنانة تجسد المرأة بوصفها ملكة وقائدة ، فقد هزمت التاريخ بعفتها وكمال فكرها ودهائها .
اصباغ وطلاءات
المشاهد لنصوص الأتاسي الصورية قد يفشل أول مرة لتلقي رسالتها ويبقى أسيرا لألوان تكويناتها وسحرها ، أنها تختزل ألوّان لوحاتها بثمة أصباغ وطلاءات فتدهش الملتقي ببريقها وشدتها ونصاعتها وحرارتها ، فتتسلل الى قلبه وتثير مشاعره من حيث براعة تصوير الملامح وتعابيرها وكأنها تعزف أكثر مما ترسم ، كأنك تنظر إلى مسابقة جمال العالم أو تنظر إلى عروس خرجت للتوّ من صالون تجميل ، فيذهب المتلقي مع اِيهامات الفنانة ويذوب معها في هذه اللعبة الجمالية فيتيه عليه معنى الثيمة الأصل والرسالة التي تبثها عبر نصوصها البصرية.
بعد الدهشة وسحر ايقاع الألوان وخلفية اللوحة وتناغمها مع الجسد الأصل والإنارة التي تلاعبت بها الأتاسي لتسخير كل ما متاح لها من عناصر وأدوات فنية لتظهر نصوصها بهذه البهجة الكرنفالية لتعطي وترسخ دلالة المكان وسيادة الجندّر الانثوي وطغيانه على المشهد الصوري .
ثمة متأمل لمشاهد ( سنا الأتاسي ) التكوينية سيكتشف مدى اللوّعة والحزن والقلق والريبة الذي تخفيه عيون نسائها وتعابيرهن والحيرة والدهشة التي لا تفارق محياهنّ ، وكأنها كانت ترسم بوتين قلبها وضميرها فتشعر بأنها كانت في غيّبة وخلّوة في عزلتها الروحية ، وما هذا الألق الأنثوي الا كبرياء أنثى لا تعرف الانكسار والهزيمة وليس من أبجدياتها ، فأنها قد تخسر حرّباً ولكن لن تخسر وجوداً ووطناً ، وان الدروس قد رضعتها من سِفرّ ( زنوبيا و جوليّا دومنا ) .
تتقصد الفنانة في أعمالها أن تعتني عناية فائقة في اظهار انوثة المرأة غاية في التصوير الجمالي وتبرز بشكل جلّي مكامن الانوثة من خلال الألوان المتضادة والمتباينة بين الشدة والتكثيف اللوني وكثافة الاضاءة بينهما ، وهذا التباين يولّد قوة وصخبا داخل اللوحة ، فتراها توظف اللون الأحمر بجوار الأبيض والأسود للتكوين مع خلفية تتدرج ألوانها من المعتم الكلي الى المعتم الأقل عتمة ، فهو مشهد سينمائي سيمائي ، فالأتاسي تعي وتفهم اللقطة والمشهد السينمائي بوصفها مخرجة سينامئية وتدرك كيف تصطاد دهشة المتلقي ، فهنا حركة الشخوص وملامحها والألوان والخلفية هي علامات ( سيميائية ) مغرضة ذات دلالات جمالية أولا ومن ثم ذات دلالّة فكرية لتسلط الضوء على المشهد والرسالة التي توّد ارسالها للمشاهد .
ان تقنية العلامات الموظفة داخل النصوص البصرية في معظم أعمالها قد وضعت بدقة متناهية وفي أصغر تفاصيلها ، ومن ضمن ذلك حركة الرأس وباقي الجسد وألوان الملابس وأشكالها والاكسسوارات والأمكنة والديكور وباقي المؤثرات ، فالغطاء الموضوع فوق الشعر (الشال أو القبعة ) الذي نراه في أكثر نصوصها ، فهي تشير الى دلالات عدة من خلال هذه الأدوات الموظفة ، فالأنثى الشرقية رغم حشمتها يبقى الجمال الشرقي طاغيا ، لقد لاحظنا أنها تستخدم مفردة القبعات فقد تعددت أشكالها ، فمنها المخروطية فهنا توظف معايير وفلسفة الجمال لدى الاغريق والذي يعد جمالا مثاليا كما هو معروف آنذاك ، وقد استعارت قبعة البهلوان المعروفة بأشكالها ، حيث لاحظنا قبعات ذات مربعات بيضاء وسود وهي هنا تظهر روح الفكاهة لدى المرأة وغنجها وخاصة تجد شكل نهاية الغطاء الاسطواني الذي ينتهي بكرة صغيرة من الكريستال أو من الّماس ، فقد يكون شكلا اغوائيا كحبّة كرّز ، وهذه روح الفكاهة التي تظهرها مع الشكل الانثوي المهيمن على المشهد هي مزايا جمال ، رغم خفايا الحزن العميق الذي ترّاه مدفونا في سرائر وتعابير الوجه وما تكتمه في خاطرها ، فكثافة الكحل على الجفون الذي يحيط العيون الواسعة وذرّف الدموع كما تصورها لإناثها الشرقية مع استقامة الحواجب الذي يمتد جانبا وبشكل مبالغ فيه والذي توحي الفنانة هنا الى لفّت النظر لغزارّة الحزن في عيون نسائها (تُعدّ الاستقامة في الحاجبين سمة لافتة في شخصيّة المرأة التي تمتلك حواجب مستقيمة. إنّها إنسان كامل قدماها على الأرض وشخصيّتها قويّة. تمنح صلابة هذه الشخصية الثقة) .
الأتاسي تحاول من خلال هذه المشاهد على ما يبدو أن تصنع مشهدا جماليا وثوريا متمردا على السائد ، لتقول : ان المرأة تستطيع أن تصنع الشكل وتوظف الأدوات كما تفهم وتعي لمفهوم الجمال وفق رؤية عصرية حداثية ، أو ممكن أن تستعيد الفهم الجمالي الفطري القديم ، فهي قادرة على انتاج وصناعة مفاهيم ورؤى وابتكارات ، فالأتاسي ليست مستهلكة أو متلقية لما يفرض عليها من مفاهيم جمالية من قبل الآخر .
ان مشهد وسع العيون وتلوينها ( هو تصوير جمالي معنوي لتجسيد رؤية المرأة الثاقبة والمتبصّرة ) ومع كثافة ألوان الكحل واستقامة الحواجب بلونها الداكن مع ذرف الدموع يشي أن يكون ( مشهدا سيميائيا للدلالة على الحزن والقلق والخيفة ) .
البقية على الموقع الالكتروني
يبرز ايضا في لوحاتها مشهد استقامة الأنف الطويل على النساء والذي تميزت به أغلب وجوه الشخوص ( فهي خاصية جمالية واشارة للتوأمة بين الجمال العربي والأثيني الذي كان محتلا لبعض أجزاء سوريا في العهود القديمة ) ( الأنف اليوناني: سُمِّي بذلك لتغلُّبه في اليونانيين، وهو مستوٍ، يكاد يكون هو والجبين على خط واحد لولا انحدار خفيف تحت الحاجبين ، مثل أنف إسكندر الأكبر وهو دليل الدقَّة والأناقة وسلامة الذوق في الفنون الجميلة مع حب الجمال بأنواعه ، كذلك كان اليونان ، وتشهد بذلك آثارهم وتواريخهم ، ولا يستلزم ذلك أن تكون تلك الخصال عامَّة فيهم ، ولكنها غالبة في أكثرهم ، وخصوصًا في نسائهم ) ، نلاحظ ايضا ميزة غلق الفم للنساء الذي يشبه القلب بألوانه حيث تتباين ألوان الشفتين في مختلف اللوحات - بين ألوان حارة ثائرة أو ألوان رومانسية باردة - (النساء صاحبات الشفاه على شكل قلب يتميزنّ عادة بالاستقلال والاعتماد على الذات ، بالإضافة إلى أن لديهم قدرا كبيرا من الجاذبية والإغراء، لا يخافون من أي شيء ويحبون المتعة) يضاف الى ذلك توظيف الفساتين الجريئة منها أو المحتشمة بألوانها المتنافرة في بريقها وشدتها اللونية مع الصمت المطبق للشفاه رغم تصويره بشكل ملفت في انوثته (قد يصمت اللسان، والشفاه الساكنة أفصح ما يعبر عن الجنان، برسائل تنفذها إلى القلب بطريق العينين (لا الأذنين) فتبثُّ ما يكنُّه الضمير من حب أو بغض ، أو فرح أو غضب ، أو عتب أو اعتذار، فتردُّ العينان الرسالة والأذنان غافلتان عمَّا دار من الحديث، لأن الشفاه تترجم العواطف بلسان لا تفهمه الآذان ، فتدل بغلظها أو رقَّتها ، ببروزها أو غورها ، باسترخائها أو تراكبها ، باحمرارها أو بُهوتها، على المحبة أو البغض، أو الفرح أو الكدر، أو الكبر أو الوداعة، أو غير ذلك من العواطف وأظلالها) ، وكأن الأتاسي توّد القول :
ان الجمال هنا ثورة وتمرد وسلاح فتاك بوجه عزل المرأة ودورها الحيوي باعتبار المرأة القلب النابض ، فمهما تسيّدت سياسة الذكورة بعنفها وسلطتها فأن لها القدرة والامكانات أن تثور عليه وتكسر كل التابوهات التي شاعت عنوة وفرضت عليها من قبل شريكها ، فيغدو الجمال وفق التاريخ هو سلطة وتوظيف الجمال في الزمكان المحددين مع الحنكة قد أنتج حضارات وتاريخ كما وصل الينا من تاريخ الامم مثل ( زنبوبيا وعشتار وافروديت وسميرة ميس وكليوباترا ) .
لم تبتعد سنا الأتاسي عن قضايا المرأة العربية والانسان العربي على حد سواء وما يواجهون من مخاطر وتحديات من حروب وتهجير وتجويع وحالة اللا استقرار التي تعم معظم البلاد العربية ، لهذا صورت المرأة الفلسطينية بكل أناقة وثقة بالنفس وامرأة تحدي وصبر بوجه كل ما يراد لوطنها من تدمير ، فيد تحمل غصن زيتون ويد تحمل قلبا ، وروح تحمل تحديا فتتكاتف النساء وتتلاحم وتتأزر في مثل هذه المحن رغم الأسى ، فيتحول مشهد التدمير في النص البصري الى حالة جمالية ، وان هذه الأرض وهذه السماء رغم الدخان والبارود وماكنة القتل والتهدم لكنها تبقى مزدهرة بالتضحيات والتاريخ وأساطير البطولة والشهادة .
سنا الأتاسي لم تقف عند اسلوب فني بعينه فهي ترسم البورتريه والذي يسود معظم أعمالها ، لكنها أيضا ترسم في مختلف المذاهب الفنية ومنها الانطباعية والواقعية والتعبيرية وكذلك ترسم باللون الأسود والأبيض حسب الموضوع والفكرة والمقاربة الفنية .