مدن لم تولد من العدم
منتصر صباح الحسناوي
في زاوية منسية من كتب التاريخ وبين سطور المناهج الدراسية تختبئ قصص المدن التي نعيش فيها، مدن لم تُخلق فجأة ولم تبدأ من العدم كما يوحي لنا البعض.
بغداد، الكوفة، الموصل، البصرة، أربيل، وكركوك كلها كانت هنا، قبل أن يقرر المؤرخون رسم حدودها ضمن صفحات محددة من الزمن.
لكنها لم تكن صفحات فارغة بل طبقات متراكمة من الحضارات التي تروي حكاية العراق كأرض ممتدة عبر الزمن لا كقطع منفصلة تظهر وتختفي مع تبدل العصور.
لحظة توثيق
لكن لماذا نشعر أحياناً وكأن مدننا قد وُلدت حديثًا؟
ولماذا يتم تجاهل آلاف السنين التي سبقت لحظة التوثيق الرسمي؟
مدن لها تاريخ قبل أن يُكتب عنها التاريخ ، تخيل أنك تقف في شوارع «الكوفة» وتسمع من يخبرك أنها تأسست على يد سعد بن أبي وقاص، فتخيل للحظة أن هذا المكان كان أرضاً خاوية، لا بيوت، لا معابد، لا أسواق. لكن الحقيقة مختلفة تماماً، فهذه الأرض كانت الجزء الأكبر من الحيرة عاصمة المناذرة، حيث ازدهرت الفنون، ونُسجت أعظم القصائد، وشُيدت الكنائس التي كانت مراكز ثقافية وفكرية قبل أن تشهد المدينة الفتح الإسلامي. الكوفة لم تكن وليدة بل نتاج حضارة ضاربة في الجذور.
وكذلك بغداد، التي يُقال إنها بُنيت على يد المنصور، وكأن هذه الأرض كانت نائمة في صمت قبل أن يرسم العباسيون أسوارها، لكن الاسم نفسه «بغداد»، كان موجوداً قبل العصر العباسي بقرون، وكانت المنطقة عامرة بالسكان ولا تزال تحتضن آثاراً سومرية وبابلية وأكدية.
وليس الأمر مقتصراً على هاتين المدينتين، فالموصل ليست فقط مدينة إسلامية بقدر ما تمثل امتداد لنينوى العظيمة قلب الإمبراطورية الآشورية، والبصرة ليست مجرد معسكر إسلامي بل ميناء طبيعي كان نقطة تجارية منذ العصور السومرية، وأربيل، التي تبدو كمدينة كردية حديثة هي في الواقع إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم، يعود تاريخها إلى ستة آلاف سنة مضت.
وهنا لا نود التقليل من اهمية المراحل الحديثة لنشوء هذه المدن وتأثيرها الذي امتد للعالمية لكن من المهم ان يكون ذلك دون ان يُقتطع التاريخ وتتحول مدنٌ ضاربة في عمق الزمن إلى نقاط بداية في كتب التاريخ؟
الجواب ليس بسيطاً فهناك أسباب متعددة لهذا الطمس المتعمد أو غير المقصود.
الروايات الدينية رسمت خطوطاً فاصلة بين ما قبل الفتح وما بعده فتم التعامل مع بعض المدن وكأنها لم توجد إلا بعد دخولها الإسلام، متجاهلين دورها السابق كمراكز علمية وتجارية وحضارية.
ثم جاء الاستعمار وهو سيد إعادة رسم الخرائط ليس فقط على الأرض، بل في الذاكرة أيضاً، إذ ركزت القوى الاستعمارية على حقب معينة وأهملت أخرى مما خلق قطيعة في الوعي الجمعي للعراقيين، وجعل بعض الفترات تبدو وكأنها مجرد فراغ بين الحضارات.
حضارات قديمة
وحتى اليوم، تسهم المناهج في ترسيخ هذه القطيعة فكم مرة قرأنا عن تأسيس بغداد، دون أن نعرف ماذا كان هناك قبلها؟
وكم مرة سمعنا عن البصرة الإسلامية، دون أن نسمع عن بصرة الحضارات القديمة؟
حينما نسمح لهذه الفجوات الزمنية بأن تترسخ في وعينا، فإننا نفقد جزءاً من هويتنا الوطنية، الهوية ليست مجرد ثقافة معاصرة أو انتماء سياسي، بل هي امتداد تاريخي، ذاكرة جماعية تشكل من نحن وتحدد كيف نرى أنفسنا في العالم. عندما ننسى أن مدننا كانت مراكز للفكر والعمارة والفن منذ آلاف السنين، فإننا نخسر جزءاً من ثقتنا في حضارتنا. وحينما نُصور أنفسنا كمجتمع بدأ في فترة معينة من التاريخ فإننا نقبل ضمنياً فكرة أن العراق لم يكن مهماً قبل تلك اللحظة، وهذا ببساطة ليس صحيحاً.
بلاد الرافدين لم تكن مجرد أرض، بل كانت مسرحاً لأعظم التحولات الإنسانية، من اختراع الكتابة إلى بناء أول المدن، من القوانين الأولى إلى الملاحم الشعرية التي ألهمت العالم.
ان إعادة رسم الخريطة الزمنية للعراق للمتلقي اهمية كبيرة في اكتشاف هذا الامتداد الذي هو مسؤولية كل عراقي، من الباحث والمؤرخ إلى المعلم والكاتب.
علينا أن نعيد رسم خريطة الزمن في أذهاننا بحيث لا تكون بغداد ابنة العباسيين فقط، ولا الكوفة ابنة الفتح، ولا البصرة معسكراً جديداً فقط ، بل مدناً تنتمي إلى تاريخ طويل ممتد ومتجذر في عمق الأرض. فالعراق، ببساطة، لم يولد من العدم... ولن يُمحى من الذاكرة.