الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
لا تقطعوا أرزاق الناس كي لا يهجروا الوطن

بواسطة azzaman

همسات ساخنة .. ومضات هادئة

لا تقطعوا أرزاق الناس كي لا يهجروا الوطن

لويس إقليمس

 

مَن منّا يجرؤُ على قبول فتح أبواب البيوت العراقية لتعاطي أشكال المخّدرات كبديلٍ سقيمٍ وقاتلٍ بعد تحريم وتجريم استهلاك أو تصنيع مختلف الخمور التي تطبَّعَ على تناولها فئاتٌ وشرائح عديدة من مواطنين من مختلف الأديان والطوائف والمذاهب والقوميات. علمًا أنّ معظم هؤلاء لا أذيةَ لهم على غيرهم سوى البحث عن أوقاتٍ طيبة وسط لمّات الأهل والأصدقاء وحول موائد الطرب والأنس والراحة و»جلسات الكيف» المتزنة والمقنّنة. فالعراق معروفٌ منذ القدم بتصنيع وتناول مشروبات مختلفة من نبيذٍ أحمر يُصنَّعُ محلّيًا من عنب الكروم المحلية أو من زبيب جافٍ كانت ترفدنا به خاصةً كرومُ شمال الوطن العامرة إلى جانب مشروب العرق المصنّع سواءً من الزبيب الأصفر أو التمر الذي تفنّنت به بلدة بعشيقة خاصةً وسهل نينوى عمومًا وربّما مناطق أخرى في عموم العراق، والذي أخذَ صيتَه من جودته وحسن تعامل مصنّعيه مع زبائنهم منذ زمن، وربما مازال قائمًا لغاية الساعة. ونحن بدورنا لا نلوم مَن يجهلُ أو يُخلُّ في تعاطيه لهذه المشروبات بصورة مشمئزّة ومستنكرة حين خروجه عن السيطرة البشرية وفقدانه إنسانيته لغاية السكر والعربدة.

فحالة السكر ذاتُها غير مقبولة بل مرفوضةٌ في كلّ الأديان والأعراف بموجب القيم الاجتماعية الأصيلة في مجتمعاتنا الطيبة. ورغمَ أنّ هذه الفقرة بالذات ليست محلَ مقالتنا لكونها منبوذة أيضًا لمَن يجيدُ الصلاة وينشد العبادة في جانبٍ من حياته حين تعاطيها بتعقّل وضمن حدود الارتياح البشري المقبول من دون الانزلاق إلى المحذور الذي يتجاوز حدود النشوة بفقدان ضبط النفس والكلام والتصرّف غير المقبول. فحين الرجوع إلى روايات وأحداث وتعليقات صادرة عن مختلف شرائح المجتمعات الدينية والثقافية والمدنية إلى جانب قراءتنا ومراجعتنا لتاريخ مجتمعاتنا في منطقتنا بالذات بما فيها الجزيرة العربية مهبط الدين الإسلامي، لا نجد ما يحرّمُ شرب الخمر «النبيذ» الذي كان قائمًا حتى على عهد رسول الإسلام وصحابته، بحسب كتب وروايات عديدة موثوقة ومسندة. وهذا ليس من عندي البتة لمن يريد الرجوع إلى المصادر والمراجع. أمّا الغلوّ الواضح في فتراتٍ وأزمنة ومراحل لاحقة، فأبطالُه بلا شكّ أشخاصٌ مخدوعون ورجال دينٍ أخفقوا في فهم وتفسير وتحليل ما ورد في القرآن الكريم «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى». فالصلاة والعبادة بطبيعة الحال، لا تتواءمان مع السُّكر والاختلال العقليّ او الخروج عن القيم والأعراف وسط المجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والثقافات. كما أنّ ما ورد في سورة المائدة: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، فيحتاج لتأوين وفهم عميق حيث لا وجوب للتحريم فيه، بل يُفهمُ منه فعلُ الاجتناب، ليس إلاّ!

ورد في إنجيل متى «ليسَ ما يدخلُ الفم يُنجّسُ الإنسان، بل ما يخرجُ من الفم هذا ينجّسُ اللإنسان» (متى 15:11). من هنا، فالإله الذي خلق البشر إلى جانب النبات والحيوان والماء وسائر العناصر، قد وهبَ الإنسان عقلاً ونفسًا وذكاءً كي يسلك بما يرضي خالقَه الذي أرادهُ خليقةً حسنةً لا ينقصهُا البحث عن أشكال ٍ من السعادة والمتعة والبهجة والراحة الغامرة وضمن حدود الوعي العقلاني. فما يدخلُ فمَ الإنسان من خيرات هذه الأرض التي أسكنَ فيها الله عبادَه للاستمتاع بها والنهل من مباهجها وأفراحها لا يمكن أن يكون نجسًا بأيّ حالٍ من الأحوال إلاّ فيما حرّمه الله. وهكذا المشروب «النبيذ» لم ترد حرمتُه في الكتب السماوية كما يشير الكثير من البحاثة والمحققون وأهل العلم ومنهم المتضلعون بالشرع من مختلف الأديان. كما أنّ المسيح في أول أعجوبة له في رسالته الخلاصية بعد نفاذ خمرٍ في أحد أعراس قانا الجليل حوّلَ الماءَ خمرًا ليسقوا المدعوّين (انجيل يوحنا 1:2-11).

حدود العقل

لذا فمسألةَ لجوء البعض للتوجه لتناول النبيذ وأشكال المشروبات ضمن حدود العقل وبما لا تنسحبُ أذيتُه على غيره من البشر يدخلُ ضمن هذه الحدود التي يريدُها الرب الخالق لخليقته في البحث عن اًشكالٍ من الراحة والمتعة والسعادة. وفي اعتقادي، هذا من ضمن الحقوق التي تراود فئات وشرائح ترى في هذه المسألة ما يسعدُها في تجاوز التعب والعمل المضني حين اللجوء إليها لتلافي المشاكل التراكمية، أيًا كان مصدرُها. أمّا مسألة التقاطع مع عبادة الله ومع الدين، أيّ كان، فلكلِّ امرئٍ حريتُه في طريقة عبادة الربّ الذي يختارُه ويرتأيه ويدافعُ عنه ككائنٍ بشريّ، سواءً من أجل صون كرامته كإنسان أو بعكسه بإلحاق الهوان به وبأهلِه وبالمحيطين به عندما يخرج عن قواعد  السيطرة على الذات وعلى الأصول الحياتية التي منحهُ إياها الخالق كي يعيش تجربتَه وفق رؤياه. هنا وفي شكل هذا السلوك، يظهر خيارُ الإنسان المتزن الذي يعرف قيمة نفسه ويحترمها بحيث لا يمكن أن تسيّرَه خروقات الخروج عن دائرة الاتزان في السلوك والتصرف. فهو إنْ اختارَ شرًّا فعليه الذنبُ والكربُ وبئسَ المصير، وإنْ عاش حريتَه بكرامة وتعقّل واتزان فلهُ مجازاتُه بالخير والبركة ورضا الله والبشر ومثيله الإنسان.

 

المنطق في إقرار التشريعات

هذا هو المنطق الذي ينبغي الانطلاق منه في اتخاذ إجراءات حياتية وإقرار تشريعات مصيرية وقوانين إنسانية وليست تعسّفية طالما أنّ البلد يتميّزُ بمجتمعات متنوعة الأديان والعقائد والمذاهب والقوميات ومعددة الثقافات والرؤى والعقليات والمستويات المعاشية. أمّا لجوءُ جماعات دينية أم سياسية أم تنفيذية لفرض طريقة أو فكرٍ أو عقيدةٍ أو أيّ اسلوب مغايرٍ جدليّ أو مشكوكٍ في صحة نَسبِه وشرعيته وقانونيته، فهذا يدخل من باب الاستبداد والقمع والتعسّف ورفض الآخر المختلف عن المشرّع في الدين والعقيدة والقومية والثقافة. وطالما اعترفنا نحن والعالم أجمع بكون العراق بلدَ الحضارات والثقافات والقوميات والجماعات المتعددة المعروفة بتعايشها السلمي على مدى الأزمان والدهور والمراحل قبلَ أن تغتالهُ سمةُ التديّن الادّعائي الظاهري من فئة المتاجِرين باسم الدّين والمذهب بغرض فرض الإرادات وقهر أصحاب العبادات المختلفة عن أصحاب القرار، فإنّ هذا البلد ماضٍ إلى حافة الهاوية يومًا بعد آخر. ونقولُها مرارًا وتكرارًا، كما قالها غيرُنا قبلنا، لن ينفع القائمينَ على بلدنا «العراق» من المغرضين به وبشعبه من مدّعي الدين والشرع والأخلاق بكافة تبريراتهم وحججهم وفرضياتهم لا الندم ولا الحنين ولا أشكال الأسى والأسف عندما يستيقظون يومًا والبلاد قائمةٌ بهوية باهتة واحدة منعزلة وحالةٍ متهرّئة ماضية إلى المجهول وأوضاعٍ كارثية يُرثى لها. وحين لات ساعة مندمٍ!

لطالما تساءلُ العديدُ من أصحاب الفكر والثقافة والعلم ومن سواهم من أصحاب الأقلام الحرّة المنفتحة والمتنورين المتسلحين برجاحة  العقل ورقيّ الفكر وصفاء الرؤية المستقبلية لحياة افضل للوطن وأهلِه: هل يمكن أن يصحو العراق يومًا وهو على شكلٍ مقزّزٍ واحد، ودين متعالٍ واحد، وفكر أصمّ واحد، ولونٍ قاتمٍ واحد، وفكرٍ متحيّزٍ واحد، ولغةٍ محدّدة واحدة، أو كيانٍ ليس فيه ما يجذبُ الناظر ويطيبُ له الخاطر ويشفعُ به الباحث عن حلاوةٍ بشهد العسل يُحلّي به مرارة الحياة، وملحٍ بطعمٍ ساحر يملّحُ به الطعام ا»لفاهي» ومرحٍ طافحٍ يعينُ به أصحابَ العقول المتعبة وثقيلي الأحمال والباحثين عن طربٍ وأنسٍ يُسكرون به نفوسَهم؟؟؟

ففي هذه الجماعات التي تحاربونها بين فترة وأخرى، أو ما تبقى من هذه الجماعات الدينية المتناقصة مع مرور الأعوام والزمن الغادر، من مسيحيّين وإيزيديين وبهائيّين وما سواهم ممّن يُسمّونهم قهرًا واستخفافًا ب»الأقليات الوطنية» والمتميّزين عبر التاريخ  في الأصالة والرقيّ والعلم والأخلاق وحسن الجيرة والأرض وطيبة القلب وكثرة الرحمة ووافرالمحبة وأصالة التجذّر في أرض الآباء والأجداد والانتماء للوطن أكثر من غيرهم، لا تجدون إلاّ فيهم أكثر من غيرهم مختلف أشكالِ الشهد الشافي وأنواع الملح الصافي وأضواء النور الهادي.

ولعلَّ في حالة خسارتهم يومًا باستمرار اتّباع ساسة البلاد وحكوماتها المتعاقبة أسلوبَ التطهير العرقي  باشكاله، والاضطهاد الديني من جانب بعض شخوصه المرضى، والتهجير القسري بأدواته الطائفية والشرعية، وواقع الأغلبية والأقلية الممقوت، سوف لن يتبقى من آثارهم إلاّ ما ندر من بنيان مرصوص بحجارة جميلة وشخوص ورموز قديمة تذكّر بماضي تليد غني من جميع الأوجه الإنسانية، إلاّ في الغدر والقتل والتهديد والتهميش والاضطهاد والظلم والغبن وما سواها من منكرات مستنكرات. فهذا ليس من ديدن بقايا هذه الجماعات المسالمة.

تشريعات مستنكرة

للتذكير أيضًا، لعلَّ جزءً من هذه الممارسات السلبية من جانب الحكومات العراقية بالتتابع والتشريعات المستنكرة الموجهة ضدّ أرزاق هذه الجماعات المسالمة التي يرى المنصفون من أبناء الوطن الشجعان فيها عينَ الغبن والإجحاف بحقوق أبنائها في العيش بالطريقة التي توائمُهم ويعتاشون عليها سواءً في إدارة ممتلكاتهم أو في أعمالهم في المطاعم والنوادي ومكاتب البيع المجازة بعد صولات عديدة ومتتالية بإغلاقها وتحريمها، هي التي ستقصم ظهر الحياة الاجتماعية في العراق.

وهي التي ستعطّلُ الفكر الوطني الجامع وتشملُ أرضَ العراق بالجفاف الفكري وتكسحُ شبابَها وأطفالَها بالسموم المستبدلة من اشكال المخدّرات المنتشرة بفعل فاعل وبالطريقة التي أصبحت مكشوفةً للجميع. ندائي إلى رئاسة الحكومة الموقرة ومستشاريها المحترمين، وإلى معالي السيد وزير الداخلية المحترم وكلّ مَن له باعٌ في معالجة هذه المسألة الملحة من مشرّعين وتنفيذيين، القيام بمراجعة وطنية واجتماعية لإعادة النظر بقرار تحريم وتجريم المشروبات قبل فوات الأوان مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة تقنين هذه التجارة وهذه المهنة ضمن الضرورات العرفية والمناطقية بدلاً من فرض الحظر الشامل غير المجزي، بل المجحف بحق شرائح واسعة من إخوتكم أبناء المكوّنات «الأقليات» المتناقصة قبل أن تخسروا وجودَهم وتحنّوا مستقبلاً لشراكتهم في الوطن وتفقدوا طعمَ أكلاتهم وطيبَ رائحتهم العطرة وجيرتَهم الحسنة المتميزة في الحي والشارع والعمل والمصنع والشركة وحتى في بيوتكم.

اعتزازي بكلّ وطنيّ ينتخي لهذا الطلب الملحّ من شرائح وجماعات ومثقفين من جميع الأديان والمكوّنات والأحزاب العاملة في وطن الخير والمحبة والرحمة والتكافل.

فلا تقطعوا أرزاق الناس كي لا يهجروا الوطن ويتركوا الأرض العراقية جرباء قاحلة من دون طعم ولا لون ولا رائحة، لتبقى فقط بلون واحد! فقد تأثرتُ مؤخرًا بشكوى على وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة من شباب يصفون أنفسَهم بعراقيين «اصحابَ غيرة» فقدوا أرزاقَهم وعملَهم بسبب قرار لوزارة الداخلية بمنع وتجريم وتحريم وتصنيع الخمور وتعاطيها إلاّ في مواقع لها خصوصيتُها الاجتماعية.

وهذا ليس إنصافًا. كما أنّ استمرار مثل هذا القرار الجدليّ سوف يكون له عواقب وخيمة على سياسة البلاد السياحية وسمعتها الاجتماعية وصناعتها المحلية. ولا عجبَ من سماع انتشار بيعها بطريقة «الديليفري» هذه الأيام. «فكلّ ممنوع مرغوب!» لكنّها تبقى في نظر الكثير من العقلاء «أهون»، كما يُقال من انتشار سموم المخدّرات التي تفتك بالبلد منذ غزوه في 2003.

كما أنّ المتعاملين بهذه الأخيرة، غطاءً ودعمًا وتسويقًا يعرفهم القاصي والداني، وإلاّ لما استقتلَت الجهة التشريعية ممثلة بأحزاب السلطة في تحريم وتجريم الخمور إلاّ لفسح المجال أمام انتشار سموم المخدرات التي تتولاها مافيات في الدولة العميقة.

أقول أخيرًا: مَن شاءَ فليشرب، ومَن لم يشأ فهذه حريتُه وخيارُه، ولا عتبَ لا على الشارب ولا على الممتنع!


مشاهدات 51
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2025/03/03 - 3:29 PM
آخر تحديث 2025/03/04 - 6:12 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 436 الشهر 2042 الكلي 10462991
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/3/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير