زمان كل يوم 18
في ذكرى رحيلها الخمسين.. الملك السومري شولكي وأم كلثوم
نعيم عبد مهلهل
بعد مرور خمسين عام على رحيلها ، لن يمتلك العاشق لصوتها سوى بهجة الذكريات والحنين الى صور الاباء على الجدران ورسائل الحب القديمة ونشوة الليل والمذياع وثمالة مغلفة بدفء شهي.
أسمع أم كلثوم في غربتي لأن صوتها خيط وصل بين ما كان وما هو كائن الآن ، وحتما ما كان هو الذكريات ، وما يكون هذه المحطات التي تأخذ بنا من يوم مشمس الى آخر ممطر.
لأجل هذا صوت أم كلثوم وغيره من مساحات السماع لصدى تلك الليالي الذي كان فيها جهاز الراديو مسامرنا الوحيد ونحن لا نملك في ذاك المكان سوى الماء والقصب وتقاطع نقيع الضفادع الذي نجبره في مرات كثيرة ليصمت ويسمع معنا ما يطرب فينا لحظة غناء أم كلثوم ( للصبر حدود ).
حدود الصبر اليوم علمتها الغربة مراناً أن تتحمل وأنت تستعيد كل بهجة ممكنة في صدى ما يدندن فيه جندي الاحتياط ( جاسم ابو العود ) ، ولأنهم لن يسمحوا له بجلب عوده الى السرية صار يعزف بفمه ، ويقول : قبلي فعلها ملك سومري أسمه شولكي يقال انه يعرف العزف بأربع آلات ويسميه الاثاريون ( الملك الموسيقار ).
الملك هذا أيضا يعزف بفمه أيضاً حين يشير عليه الكهنة وقادة الجند وقت الحرب بأن الملك أمام جنوده عليه أن يمسك سيفا وليس قيثارا.
جاسم كان موظفا وقتياً في مركز شباب الناصرية وبأجر يومي ، أتوا به معي في خدمة الاحتياط الى قمم لا يصل اليها سوى النسور والجنود وصوت أم كلثوم ، أما شولكي فقد ابقيناه هناك يدندن بأحلام سلالة أو الثالثة في غرفة الخلوة الالهية اعلى الزقورة ، يكرع خمرة التمر والعنب ويعزف بقيثارته متوددا الآلهة لتجلب له المزيد من الاحلام وعندما تكتمل ثمالته يستعين بحرسه الخاص لينزلوه من السلالم الطويلة حتى قصره الذي لا يبعد امام الزقورة سوى مئة متر.
ثلاثية المكان ، وثلاثية شخوصه ( الزقورة ، قرية تقع على ضفاف الأهوار ، وربيئة معلقة في قمة جبل شمالي ) والشخوص ( شولكي ، أم كلثوم ، جاسم أبو العود ) .
ثنائية الشخص والمكان تكملها ثلاثية الجلوس هنا على أريكة بضفاف نهر الراين وتذكر اقدار ما كنا نتخيله في تشكيل الروح الحنونة حتى عندما يكون الجو شرجياً ولا يحتمل ، لكننا كنا نصر على سماع أم كلثوم ونذهب معها الى أسطرة خفق قلوبنا لنهرب من هذا الجو الخانق ، غير أن منتصف الليل يأتي بنسائم لطيفة عندما نبلل ( الكلل ) البيضاء فيضربها الهواء لتبرد اجسامنا ويداهمنا النعاس اللذيذ منتظرين ديك بيت شغاتي الاحمر ليكرر عبارته قرب مسامعنا : أنهضوا القراءات الخلدونية تنتظركم.
الآن بين شولكي وأم كلثوم جرح حرب ، وعزف العود الموظف تمتد مسافات من حدائق الذكريات تسجل وقائع ما كان غاستون باشلار يعتقد :إن المكان مع الذكريات البعيدة كفيل بصنع معزوفة جميلة نؤلفها نحن.
وعبر تلك المرايا التي تهطل كما مطر صيف ربايا الشمال اتخيل وجه جاسم عندما كان يعيد وحسب طلبي عزف مقدمة للصبر حدود لأشعر أن الملك السومري وأهل القرية يسمعون معنا وبسعادة ، حتى الآلهة شاركتهم لحظة الاصغاء ، فأسمع مداولة اخر عزف له قبل أن تسكن الشظية رأسه وتذهب به الى دلمون وقد يجد هناك أم كلثوم وشولكي وقد لا يجدهم .
عندما قال سين اله القمر في مدينة اور : إنها الموسيقى .
قال شولكي : هي الراحة التي تخالف تفكير كل حرب.
قال جاسم : هي الجوع الذي يشبع البطن والذاكرة .
قلت أنا : وداعا للجميع.......!