قبل أسبوعين صادف يوم استراليا الوطني؛ يطلقون عليه Australia day حيث احتفلت مدينة بيرث Perth التي أقيم فيها منذُ ثلاثة وعشرون عاماً مع مغيب الشمس بمهرجان الألعاب النارية والتي استمرت تنفلق بألق شهبها الملونة لساعة كاملة في سماء المدينة. كان قد سبق موعد بدء الألعاب النارية بساعات؛ توقف حركة المواصلات داخل المدينة نتيجة زحام الناس الذين توافدوا زرافات من كل فج عميق ومن منازلهم البعيدة، وهم يحملون العلم الأسترالي أو يرتدونه كزيًّ من قبل بعض المتحمسين لهذا اليوم الوطني، بينما حرص الأطفال والفتيات المراهقات على طبع العلم الاسترالي على جباههنَّ وخدودهنَّ وأكفهنَّ وأفخاذهنَّ وصدورهنَّ وحتى على نهودهنَّ شبه العارية؛ كانوا يردِّدونَ بصوت أوبرالي أُوزي، أُوزي، وهي كلمة الدلع التي تطلق على المواطن الأسترالي، بينما تجمَّع الناس بشكل مكثف عند ضفاف نهر Swan الذي يشطر المدينة إلى نصفين، حيث يمكنهم من هناك مشاهدة الألعاب النارية عن كثب وهي تنفلق بتشكيلاتها الضوئية فوق النهر مع حلول الظلام، في حين اختار بعض الناس حديقة الكنز بارك Kings park وتعني بالعربية حديقة الشهداء الذين استشهدوا في الحرب العالمية الثانية، تلك الحديقة التي شهقت على أرضها أشجار الغابات على مرِّ السنين ومن دون تدخل الإنسان والتي ترتفع بمئات الأمتار عن مستوى سطح البحر وتطلُّ بشكل مدهش على مركز المدينة، ولشدة ارتفاع هذه الحديقة ترى السيارات المنطلقة في شوارع المدينة بحجم علب الكبريت؛ مثلما بوسعك رؤية التلال والمزارع والحقول التي انتشرت عند مشارف المدينة، إذْ تعد حديقة الكنز بارك من المناطق السياحية الأثيرة لدى السائح القادم إلى مدينة بيرث، لروعة أشجارها العملاقة وهندسة حدائقها الغنّاء ولسحر إنارتها ومرافقها السياحية الأخرى، ثم شعلة النار الليزرية المتوهجة طوال الوقت في قلب الحديقة والتي تشير إلى تضحية الشهداء وخلود ذكراهم في وجدان الشعب الأسترالي؛ مع توفر الحانات ومقاهي الكوفي شوب ومتحف صغير يضمُّ لوحات بنقوش ملونة تبدو غريبة وغير مألوفة، رسمها السكان الأصليون والذين يطلق عليهم تسمية الأبروجنول لدى عامة الناس، لكني لاحظت عند حضوري فعالياتهم الثقافية أنَّ جميع الأدباء الأستراليين الذين يصعدون إلى المنصَّة وقبل قراءة نصوصهم يدلونَ بهذا الاعتراف: نحنُ نعترف بسيادة الشعوب الأولى على هذه الأراضي والمياه التي نجتمع فيها؛ ونقدّم كل الاحترام لأجدادهم ولآبائهم وللأمم التي حافظت واهتمت بهذه الأرض منذ التكوين، كما نحيي ونقدر جميع السكان الأصليين وسكان الجزر الذين هنا اليوم، هذه الأرض هي أرض الله وروح الله تسكن هنا، ونحن نعترف بالسكان الأصليين هم الأمناء الأساسيين على هذه الأرض، ونحنُ نلزم أنفسنا مرة أخرى بالعمل من أجل المصالحة على هذه الأرض. وهو اعتراف واضح وصريح لهؤلاء القوم بأحقيتهم على أرض أستراليا. يزور هذه الحديقة أكثر من ستة ملايين شخص في كل عام من بقاع العالم، زحام شديد تحتضنه المدينة في مثل هذا اليوم الوطني من كل عام يذكّرني بزحام الزائرين في مدينتي كربلاء أيام المناسبات الدينية؛ لكنَّ زحام الناس في مدينة بيرث يشعرك بالبهجة والحبور وليس باللطم والنحيب؛ حين تبصر حشود الشقراوات بجمالهن الفاتن كحور عين هبطن من الفردوس، ومازال الاحتفال بهذا اليوم الوطني موضع جدل بين الناس والحكومة ولدى السكان الأصليين خصوصاً؛ حيث يعتبرونهُ يوم نكبة لهم؛ ويفضّلون تسميته بيوم الاحتلال، إذْ وقع في مثل هذا اليوم السادس والعشرين من شهر كانون الثاني إحياء ذكرى وصول أول أسطول بحري بريطاني، والمكون من 11 باخرة، إلى استراليا وذلك في عام 1788؛ حيث جاءَ البريطانيون إلى استراليا وأنشئوا مستعمرتهم في نيو ساوث ويلز New South Wales الواقعة على الساحل الشرقي لأستراليا، لكنَّ الطريف في الأمر حين ترى معظم السكان الأصليين ينتهزون هذا اليوم لشرب كميات كبيرة من النبيذ الذي يوّزع مجاناً في بعض الحانات، وتجد بعضهم بعد أنْ تنال منهم الثمالة يصرخون ساخطين بصوت محتج على وجوه الحشود المحتفلة ومن أعراق شتَّى وجنسيات مختلفة Go out from my land أخرجوا من وطني. غير أني في هذه السنة لم أبرح المنزل بينما ذهبت العائلة لمشاهدة مهرجان الألعاب النارية، كنت وحيداً أتابع عبر الفضائيات مشهد عودة الفلسطينيين إلى ديارهم التي طالها الخراب، وقلبي يتفطَّرُ ألماً ويرعف دمعاً على ما آل إليه حالهم وهم يزحفون ليرقدوا قرب منازلهم المحطمة؛ كانت أوجاعهم واستغاثتهم تلاحقني في هذه القارة البعيدة، وفرقٌ شاسعٌ بين شعب يحتفل هنا وشعب ينزف دماً هناك؛ بينما الحكَّام العرب يتفرجون بقلوب ميتة على تلك الحشود المشرَّدة التي بح صوتها من الأسى والتي لا تنشد سوى حقوقها، حقوقها التي يبدو ستبقى مغتصبة؛ وتساءلت بحرقة ترى متى أرى شعب فلسطين يحتفل بيوم وطني حقيقي؛ فهو البلد الوحيد في العالم الذي لا يمتلك يوماً وطنياً خالصاً حتى الآن.