كانت الإذاعة المسموعة في ما مضى الرفيقة الدائمة للإنسان، والوسيلة الأكثر انتشاراً وفاعلية من بين جميع وسائل الإعلام، وكان تأثيرها في المجتمع كبيراً، وحضورها في الأذهان طاغياً، ولا عجب فهي الأداة الرئيسة لصنع الرأي العام آنذاك في كل بلدان العالم.
وكانت بلداننا العربية توليها عناية قصوى، وتضعها في الصدارة من اهتماماتها، حتى أن الاستيلاء عليها بالقوة المسلحة، كان إعلاناً عن سقوط نظام سياسي وحلول آخر محله، وغالباً ما يضع الانقلابيون مثل هذا الأمر في مقدمة أولوياتهم عند التفكير في إزاحة خصومهم من السلطة.
ولعل من الظواهر الجميلة التي كانت ترافق البث الإذاعي في تلك الأيام، الأحاديث التي يلقيها بشكل منتظم أساتذة وسياسيون ومفكرون وأدباء على الملأ.
وفي العادة يحضر هؤلاء للإذاعة بأنفسهم، ويقدمون ما لديهم على الهواء مباشرة.
وبمرور الأيام يصبح هؤلاء نجوماً يتناقل الناس أخبارهم، وتغدو أصواتهم علامة فارقة تألفها الأسماع، ولم يكن من الغريب أن تحرص النخبة لدينا على هذه المشاركة حرصاً شديداً.
ومن الأعلام الذين دأبوا على الحضور الدكتور طه حسين، الذي كانت أحاديثه تذاع على الهواء كل أربعاء في الإذاعة المصرية، وقد جمعها في ما بعد في كتاب اسماه (حديث الأربعاء) ، أما في العراق فكان أشهر المتحدثين هو الدكتور مصطفى جواد، وقد اختار في حقبة ما أن يقدم سلسلة أحاديث بعنوان (قل ولا تقل)، باتت سمة له بين الناس، ثم جمعها هي الأخرى في كتاب حمل الاسم ذاته.
ومن الأسماء اللامعة التي اعتادت إلقاء الأحاديث في الإذاعة العراقية في وقت مبكر، الدكتور عبد الرحمن البزاز، أول رئيس وزراء مدني في العراق الجمهوري (1965 – 1966)، بعد عودته إلى العراق عام 1939، وهي مقالات اجتماعية قصد منها التوجيه والإرشاد، وتنبيه الأذهان إلى الأخطاء ومواطن الزلل، وغير ذلك من الأمور، كما أنه واصل إلقاء أحاديثه التي اصطبغت بلون سياسي بعد خروجه من العراق الجمهوري في إذاعة صوت العرب المصرية.
وقد اسهمت هذه الأحاديث في صعود نجم البزاز، واختياره لشغل مواقع مهمة في الدولة، وفي ذات الوقت، جعلت منه ضيفاً دائماً على السجون والمعتقلات، وأقبية التعذيب الوحشية، وربما لم يكن مثل هذا ليحدث لو أنه كلف سواه بإلقائها على الملأ بدلاً عنه، فللصوت تأثيره هو الآخر في أذن وقلب المستمع.
ومن الطريف أن الشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي النجفي (ت 1977) اعتاد على إلقاء قصائده في الإذاعة اللبنانية بين الحين والآخر، في برنامج شعري يقدم كل صباح.
وحدث ذات يوم أن أصدر مدير الإذاعة قراراً بأن يتولى المذيعون إلقاء النتاجات الشعرية بالنيابة عن أصحابها، لأسباب غير معروفة، وقد نزل هذا القرار على نفس الصافي الرقيقة نزولاً سيئاً، فحزن أشد الحزن، وأعلن عن رفضه المشاركة في البرنامج، ولم يكتف بذلك بل شفعه بقصيدة جميلة يتوجع فيها من هذا القرار الظالم، ويودع فيها مستمعيه وداعاً مؤثراً منها هذه الأبيات:
وداعاً لكم أيها السامعــون لروحـي تبــث بأشعـاريــه
أخاف عليها جمود المذيـع فليس سوى الوزن والقافية
وإن المذيـــــع له روحــه وذو الشعر روح له ثانيـة
غداً تنصتون فلا تسمعون لرنــة صــــوتي وألحــانيــه
لقد كان لي منبر بينــــكم وقد حطمته يــد عاتيــــــة
ويروى أن الإذاعة اللبنانية أقنعت الأستاذ الصافي، بسبب هذه الأبيات المتفجعة، أن يكون راويته صديقاً عزيزاً له، ذا إلقاء مميز جميل، هو الإعلامي (فائق الرجي) ، فوافق بعد تردد، وسارت الأمور على هذا النحو زمناً، حتى ظهر التلفزيون، وقضى على كل ما للإذاعة من جاذبية وانتشار.