الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أحاديث‭ ‬إذاعية

بواسطة azzaman

أحاديث‭ ‬إذاعية

محمد زكي ابراهيم

 

كانت‭ ‬الإذاعة‭ ‬المسموعة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬الرفيقة‭ ‬الدائمة‭ ‬للإنسان،‭ ‬والوسيلة‭ ‬الأكثر‭ ‬انتشاراً‭ ‬وفاعلية‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭  ‬وكان‭ ‬تأثيرها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬كبيراً،‭ ‬وحضورها‭ ‬في‭ ‬الأذهان‭ ‬طاغياً،‭  ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬فهي‭ ‬الأداة‭ ‬الرئيسة‭ ‬لصنع‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭.‬

‭ ‬وكانت‭ ‬بلداننا‭ ‬العربية‭ ‬توليها‭ ‬عناية‭ ‬قصوى،‭ ‬وتضعها‭ ‬في‭ ‬الصدارة‭ ‬من‭ ‬اهتماماتها،‭  ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الاستيلاء‭ ‬عليها‭ ‬بالقوة‭ ‬المسلحة،‭ ‬كان‭ ‬إعلاناً‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬وحلول‭ ‬آخر‭ ‬محله،‭  ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬يضع‭ ‬الانقلابيون‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬أولوياتهم‭ ‬عند‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إزاحة‭ ‬خصومهم‭ ‬من‭ ‬السلطة‭.‬

‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترافق‭ ‬البث‭ ‬الإذاعي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام،‭ ‬الأحاديث‭ ‬التي‭ ‬يلقيها‭ ‬بشكل‭ ‬منتظم‭ ‬أساتذة‭ ‬وسياسيون‭ ‬ومفكرون‭ ‬وأدباء‭ ‬على‭ ‬الملأ‭.‬

وفي‭ ‬العادة‭ ‬يحضر‭ ‬هؤلاء‭ ‬للإذاعة‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬ويقدمون‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬مباشرة‭.‬

وبمرور‭ ‬الأيام‭ ‬يصبح‭ ‬هؤلاء‭ ‬نجوماً‭ ‬يتناقل‭ ‬الناس‭ ‬أخبارهم،‭ ‬وتغدو‭ ‬أصواتهم‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬تألفها‭ ‬الأسماع،‭  ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬تحرص‭ ‬النخبة‭ ‬لدينا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المشاركة‭ ‬حرصاً‭ ‬شديداً‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬الأعلام‭ ‬الذين‭ ‬دأبوا‭ ‬على‭ ‬الحضور‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬أحاديثه‭ ‬تذاع‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬كل‭ ‬أربعاء‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية،‭  ‬وقد‭ ‬جمعها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬اسماه‭ (‬حديث‭ ‬الأربعاء‭) ‬،‭  ‬أما‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬فكان‭ ‬أشهر‭ ‬المتحدثين‭ ‬هو‭ ‬الدكتور‭ ‬مصطفى‭ ‬جواد،‭  ‬وقد‭ ‬اختار‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬سلسلة‭ ‬أحاديث‭ ‬بعنوان‭ (‬قل‭ ‬ولا‭ ‬تقل‭)‬،‭ ‬باتت‭ ‬سمة‭ ‬له‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭  ‬ثم‭ ‬جمعها‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬حمل‭ ‬الاسم‭ ‬ذاته‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬الأسماء‭ ‬اللامعة‭ ‬التي‭ ‬اعتادت‭ ‬إلقاء‭ ‬الأحاديث‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مبكر،‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬البزاز،‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬مدني‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬الجمهوري‭ (‬1965‭ ‬–‭ ‬1966‭)‬،‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬عام‭ ‬1939،‭  ‬وهي‭ ‬مقالات‭ ‬اجتماعية‭ ‬قصد‭ ‬منها‭ ‬التوجيه‭ ‬والإرشاد،‭ ‬وتنبيه‭ ‬الأذهان‭ ‬إلى‭ ‬الأخطاء‭ ‬ومواطن‭ ‬الزلل،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭  ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬واصل‭ ‬إلقاء‭ ‬أحاديثه‭ ‬التي‭ ‬اصطبغت‭ ‬بلون‭ ‬سياسي‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬الجمهوري‭ ‬في‭ ‬إذاعة‭ ‬صوت‭ ‬العرب‭ ‬المصرية‭.‬

وقد‭ ‬اسهمت‭ ‬هذه‭ ‬الأحاديث‭ ‬في‭ ‬صعود‭ ‬نجم‭ ‬البزاز،‭ ‬واختياره‭ ‬لشغل‭ ‬مواقع‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭  ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬الوقت،‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬ضيفاً‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬السجون‭ ‬والمعتقلات،‭ ‬وأقبية‭ ‬التعذيب‭ ‬الوحشية،‭  ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬ليحدث‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬كلف‭ ‬سواه‭ ‬بإلقائها‭ ‬على‭ ‬الملأ‭ ‬بدلاً‭ ‬عنه،‭  ‬فللصوت‭ ‬تأثيره‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬أذن‭ ‬وقلب‭ ‬المستمع‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬الكبير‭ ‬أحمد‭ ‬الصافي‭ ‬النجفي‭ (‬ت‭ ‬1977‭) ‬اعتاد‭ ‬على‭ ‬إلقاء‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬شعري‭ ‬يقدم‭ ‬كل‭ ‬صباح‭.‬

وحدث‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬مدير‭ ‬الإذاعة‭ ‬قراراً‭ ‬بأن‭ ‬يتولى‭ ‬المذيعون‭ ‬إلقاء‭ ‬النتاجات‭ ‬الشعرية‭ ‬بالنيابة‭ ‬عن‭ ‬أصحابها،‭ ‬لأسباب‭ ‬غير‭ ‬معروفة،‭  ‬وقد‭ ‬نزل‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الصافي‭ ‬الرقيقة‭ ‬نزولاً‭ ‬سيئاً،‭ ‬فحزن‭ ‬أشد‭ ‬الحزن،‭ ‬وأعلن‭ ‬عن‭ ‬رفضه‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬البرنامج،‭  ‬ولم‭ ‬يكتف‭ ‬بذلك‭ ‬بل‭ ‬شفعه‭ ‬بقصيدة‭ ‬جميلة‭ ‬يتوجع‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬الظالم،‭ ‬ويودع‭ ‬فيها‭ ‬مستمعيه‭ ‬وداعاً‭ ‬مؤثراً‭ ‬منها‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭:‬

‭       ‬وداعاً‭ ‬لكم‭ ‬أيها‭ ‬السامعــون‭     ‬لروحـي‭ ‬تبــث‭ ‬بأشعـاريــه

‭      ‬أخاف‭ ‬عليها‭ ‬جمود‭ ‬المذيـع‭     ‬فليس‭ ‬سوى‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية

‭      ‬وإن‭ ‬المذيـــــع‭ ‬له‭ ‬روحــه‭       ‬وذو‭ ‬الشعر‭ ‬روح‭ ‬له‭ ‬ثانيـة

‭      ‬غداً‭ ‬تنصتون‭ ‬فلا‭ ‬تسمعون‭    ‬لرنــة‭ ‬صــــوتي‭ ‬وألحــانيــه

‭      ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬منبر‭ ‬بينــــكم‭       ‬وقد‭ ‬حطمته‭ ‬يــد‭ ‬عاتيــــــة

‭ ‬ويروى‭ ‬أن‭ ‬الإذاعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬أقنعت‭ ‬الأستاذ‭ ‬الصافي،‭ ‬بسبب‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬المتفجعة،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬راويته‭ ‬صديقاً‭ ‬عزيزاً‭ ‬له،‭ ‬ذا‭ ‬إلقاء‭ ‬مميز‭ ‬جميل،‭ ‬هو‭ ‬الإعلامي‭ (‬فائق‭ ‬الرجي‭) ‬،‭  ‬فوافق‭ ‬بعد‭ ‬تردد،‭ ‬وسارت‭ ‬الأمور‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬زمناً،‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وقضى‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬للإذاعة‭ ‬من‭ ‬جاذبية‭ ‬وانتشار‭.‬

‭ ‬


مشاهدات 113
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/02/01 - 12:04 AM
آخر تحديث 2025/02/06 - 7:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 273 الشهر 2990 الكلي 10398361
الوقت الآن
الخميس 2025/2/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير