الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عندما نسي محمد غني حكمت سكنه

بواسطة azzaman

أذن وعين

عندما نسي محمد غني حكمت سكنه

عبد اللطيف السعدون

ليس غريبا أن يتجه محمد غني حكمت نحو فن النحت، فقد ولد في محيط مشبع برائحة القدم والعراقة، وعاش طفولته وفتوته ملتصقا بالتراث والتاريخ، وهو يتذكر واقعة صغيرة جعلته يستعيد صلته بالمكان الأول الذي ولد فيه، يقول حكمت انه جرب مرة عندما كان دارسا لفن النحت في ايطاليا أن يقوم بعمل تمثال حديث التشكيل يعتمد على أساس النظر بشكل مختلف الى الجسد الانساني كأن يكون الذراع أطول، والقدم منتفخة.. الخ، وحدث أن شاهد التمثال معلمه النحات البارز ميغيل كوريزي الذي يعد آخر النحاتين الكلاسيكيين في ايطاليا فما كان منه الا ان يصرخ في وجهه بغضب: «أنت ابن سلالة وادي الرافدين، وأجدادك كانوا النحاتين الأوائل.. كيف تسمح لنفسك أن تفعل هذه الفعلة؟»

من ذلك الوقت استعاد حكمت ذاكرته العراقية، كما يقول، فقد ولد في بيت يقغ في «محلة الأنباريين» في الكاظمية، ولو وقفت في الصحن الكاظمي تستطيع أن ترى البيت، شناشيله من الزجاج الملون، ومزخرف من الخارج، وكذلك الأعمدة الخشبية التي يستند اليها، كما كان الباب الخارجي مزينا بتاج من الجبس المنقوش برسوم حيوانات ونباتات، وفي وسطه مقبض من البرونز اللماع.

وفي ذاكرة حكمت بيت جده أيضا الذي يضم في صحنه الكبير بئرا وحوض ماء وشجرة نبق، وان كان الزمن قد أخذ أجزاء من حيطانه، وانغلق بئر الماء، ولم يبق من البيت سوى آثار تفصح عما كان.

مواكب ملونة

يضيف النحات الكبير ان ذاكرته ارتبطت أيضا بمشاهد مواكب عاشوراء التي تمارس في الكاظمية، المواكب الملونة والطقوس والحكايات التي ترافق ذلك، وصور الزوار الذين يعانون من مشكلات وهموم، ويعقدون قطع القماش الخضراء عند الضريح طلبا لتحقيق مرادهم، كل هذا انطبع في ذاكرته ليوثق صلته بالتاريخ والتراث، ويأخذ منهما في منحوتاته.

في ذاكرة حكمت، الى جانب ذلك، الكثير من الوقائع المثيرة والطريفة، لكن أكثرها طرافة تلك التي حدثت له في الأيام الأولى لوصوله الى روما في بعثة لدراسة فن النحت، واستقبله ابراهيم جلال الذي كان سبقه في الاقامة في روما مبعوثا للدراسة، وساعده في استئجار غرفة للسكن لدى أسرة ايطالية تقع قرب «الكوليسيوم»، المدرج الروماني الذي يقع وسط العاصمة، وفي اليوم الثاني التقاه الفنان سعد الطائي الذي كان، هو الآخر، يقيم قبله قي روما، ودعاه الى حفل لنقابة الفنانين الايطاليين حيث تعرف للعديد منهم، وشاركهم الاستمتاع بتلك السهرة النادرة التي قدمت فيها فعاليات فنية متنوعة، ويتذكر كيف طلب منه ان يغني اغنية عراقية، وكان ذلك امرا محرجا له وهو ابن الكاظمية المحافظ والخجول، وأخبرا اضطر لتلبية الطلب وغنى مونولوج «نص الليل فزيت من نومي» للفنان عزيز علي الذي كان مشهورا في العراق، وبالطبع لم تكن كلمات المونولوج مفهومة لدى الايطاليين الا أن ايقاع اللحن الراقص سحرهم، وتحولت القاعة كلها الى حلبة رقص على وقعه.

رقم مبنى

يضيف حكمت انه بعد انتهاء الحفلة وكانت الساعة فد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل رافقه سعد الطائي الى منطقة «الكولسيوم» حيث يقع سكنه على مقربة منها، وتركه هناك، عند ذاك اكتشف انه نسي رقم المبنى الذي يقيم فيه، وليست لديه أية دالة تعينه على الوصول، وحاول ان يتذكر العنوان، ولكن عبثا، ولاحظ أن ليس ثمة أحد في الشارع باستثناء الحارس الليلي الذي كان يمتطي دراجته الهوائية، ويطوف الشوارع ليتأكد ان أبواب العمارات والمخازن مغلقة، وليترك عند كل باب ورقة صغيرة تؤكد قيامه بعملية الفحص المطلوبة، وهي عادة ايطالية كانت قائمة آنذاك، ولفت نظر الحارس وجود حكمت فتقدم منه ليسأله بالإيطالية طبعا، ولم يفقه حكمت ما قاله الحارس  لكنه حاول ان يعبر له باللغة الانجليزية التي كان يستطيع التفاهم بها، ولم يفهم الحارس قصده، هنا تذكر السيدة البدينة ربة البيت الذي يسكن فيه، ورسم للحارس بالقلم امرأة سمينة وهو يردد «السنيورا.. السنيورا»، ثم رسم قطة اشارة الى أن السنيورا تهتم بتربية القطط، واردفها بكلمة «ميو.. ميو»، ثم رسم مدخل البيت والسلم الذي يؤدي اليه، والتمثالين الموضوعين على يمين ويسار المدخل، وبعد أن فكر الحارس أخذ حكمت من يده، وأوصله الى المبنى المقصود، وضرب الجرس فظهرت السنيورا من على الشرفة، ولما رات حكمت اخذت تتكلم بحدة، ولم يفهم كلماتها لكنه أدرك أنها تؤنبه على جهله بموقع سكنه!

    كان ذلك درسا لم ينسه حكمت مدى حياته، ولم يعد منذ ذلك الحين يترك أي مكان يقيم فيه الا ويحرص أن يعرف عنوانه الكامل، ويضع مفتاحه في جيبه بأمان!

 


مشاهدات 220
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/05/04 - 12:47 AM
آخر تحديث 2024/05/18 - 10:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 175 الشهر 6978 الكلي 9345016
الوقت الآن
السبت 2024/5/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير