الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قصة الخليقة البابلية وعبدالرزاق عبدالواحد
قيس حسين رشيد

بواسطة azzaman

قصة الخليقة البابلية وعبدالرزاق عبدالواحد

قيس حسين رشيد

 

قصة الخليقة البابلية أو ما تسمى من قبل البعض ملحمة الخلق البابلية هي إحدى إثنتين من الملاحم اللتان تُعدان من أجمل ما كتبهُ شعراء الشرق القديم ، فهي تمثل مع شقيقتها ملحمة جلجامش إيقونتا الادب الرافديني المائز المُشبع بالفلسفة والدين والميثولوجيا.

عُرفت ملحمة الخلق البابلية بأسم ( إينوما  إيليش )

وهو المقطع الشعري الذي تبدأ به ، حيث درج العراقيون القدماء على عنونة نصوصهم الابداعية بالمقطع الاول الذي تبدأ به تلك النصوص ، والمقطع (اينوما ايليش) البابلي يعني بالعربية ( عندما في العُلى) .

تمتاز تلك القصيدة- الملحمة بشعريتها العالية وإسلوبها الادبي الرفيع الذي يُفصح عن معتقدات رافدينية تغوص في مواضيع مُبهمة كنشأة الحياة على الارض وتأثيث السماء ووجود المعبودات ووظائفها والصراعات اللاهوتية التي أدت الى ظهور الكون. يعود النص الاصلي للملحمة الى الالف الثاني قبل الميلاد إبان العصر البابلي القديم( 2003-1595) قبل الميلاد وقد وجدت ألواحهِ الطينية السبعة  ضمن الكنوز المعرفية التي كُشف عنها في مكتبة الملك الاشوري أشور بانيبال(668-626) قبل الميلاد ..الملك المثقف الذي حرص على جمع ونسخ كل الارث الرافديني القديم في مكتبة قصرهِ الامبراطوري في العاصمة الاشورية نينوى.

جاء في مطلع ملحمة الخلق البابلية:-

((  عندما في العلى لم يكن هناك سماء

   وفي الاسفل لم يكن هناك أرض

   لم يكن من الالهة سوى آبسو  وممو

   وتيامة التي حملت بهم جميعاً

   يمزجون أمواههم معاً

  قبل ان تظهر المراعي وتتشكل سبخات القصب)) .

ثم يغور شاعر الملحمة في تفاصيل مخاض طويل وصراع مرير بين مردوخ كبير معبودات بابل وبين تيامة المعبودة الأم يتكلل بإنتصار مردوخ حيث يقتل تيامة ويشطر جسدها الى نصفين فيرفع نصفها الاول ليكون سماء ويخفض نصفها الثاني ليكون الارض، معبراً عن ذلك بالمقطع الاتي:-

((  شقها الى نصفين فأنفتحت كما الصدَفة

   رفع نصفها الاول وشكّل منها السماء سقفاً

   ومن شقها الثاني رسّخ الارض

   وفي وسطها أسال مجرى عظيم )).

وبعد هذا الانتصار الذي تباركهُ جميع المعبودات يوغل مردوخ في التمثيل بجثة تيامة فكان يصنع من تفاصيل جسدها المُلقى بين يديه أثاث الكون،لعل من المناسب أن نقف على المقطع الأتي:-

((  صنع من لعابها غيوماً حملّها بالمطر

    ثم عمد الى رأسها فصنع منه تلالاً

   وفجّر من أعماقها مياهاً

   فإنبثق من عينيها نهرا دجلة والفرات

   ومن ثدييها رفع الجبال السامقة

   وأجرى منها ينابيعاً )).

وهكذا ينقلنا الشاعر البابلي صاحب هذا النص في رحلة معرفية يُفصح فيها عن فلسفة البابليين تجاه الكون وعوالمه وهو يُعلي شأن بابل التي إعتقدها مركز ذلك الوجود.

ومن الطبيعي ان تؤثر تلك المآثر الابداعية الرافدينية

على الادب الحديث والمعاصر وتُلقي بضلالها على منجز الكتاب والشعراء وعياً أو لا وعي. وأعتقد إن الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد وهو يهمّ بكتابة قصيدتهِ سفر التكوين كان قد تأثر بملحمة الخلق البابلية ، وهو القادم إلينا بعد اكثر من 4000 عام من كتابة النص الاصلي للملحمة بكل عمقهِ المندائي القديم وثقافتهِ المتجذرة في التاريخ.

فبدأ نصهُ بالمقطع ( عندما كورت) وكأن التناص الشعري يلاحقه ليس بكلمة(عندما) التي بدأت بها كلتا القصيدتين بل حتى بالتفعيلة نفسها فلا يجد المتلقي صعوبة في ايجاد هذا التطابق بين تفعيلة

( عندما في العلى) وبين تفعيلة ( عندما كورت).

ولكن يبقى لقصيدة سفر التكوين سحرها وعالمها الخاص الذي يلامس الوجدان ربما بسبب تلقيها المباشر من قبلنا بلغتنا الأم بينما تُضيّع علينا الترجمة بعض سحر وجماليات ملحمة الخلق البابلية وهو ديدن أغلب الترجمات .

يبدأ مطلع قصيدة سفر التكوين وهو المقطع الأهم في كل القصيدة بالاتي:-

((  عندما كورت

  عندما كل اياتها صورت

  قيل للشمس أن تستقيم على موضعٍ لا تغيب

  وللنجم كن انت منها قريب

  ثم خُط على الارض منعطفان

   تبجس بينهما الماء

   بمعجزةٍ تجريان

   فألتقى الفجر بالليل

   والنار بالسيل

  كلٌّ بإمرٍ يُساق

   وأتى الصوت

   كوني..

    فكان العراق )).

ومثلما كانت لملحمة الخلق البابلية فردوس أسطوري تتمحور حوله الاحداث وهو(بابل) كان

لقصيدة سفر التكوين ذات المكان والحضوة متمثلاً بالعراق كله، الذي ولد منذ فجر الارض بأمرٍ مساق وهو قرين ولادة الشمس والنجوم والماء كما عبّرت القصيدة.

حفظ الله العراق وبابل وكل أخواتها اللواتي يحملن كلٍ منهن قصة خلق ضاربة في اعماق التاريخ الانساني تستحق سِفرٌ يكتبه عبدالرزاق أخر في عراق شعرائهِ بعدد نخيلهِ.


مشاهدات 395
الكاتب قيس حسين رشيد
أضيف 2024/04/05 - 11:09 PM
آخر تحديث 2024/05/08 - 7:28 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 165 الشهر 2973 الكلي 9241011
الوقت الآن
الأربعاء 2024/5/8 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير