من أكثر الأمور إثارة للعجب، ومدعاة للاستغراب، عزوف العرب عن فكرة الوحدة، واستبدالها بالتجزئة، ورفضهم القبول بالجماعة، وميلهم للعيش على انفراد، وهم يعلمون أنهم بهذه الحال، يلقون بأنفسهم في التهلكة، ويعرضون وجودهم للخذلان.
وقد مر حين من الدهر كانوا يحلمون فيه بوطن واحد، وزعامة واحدة، لكن مجرد الكلام في هذا الموضوع بات الآن هرطقة لا تجدي، ولغواً لا ينفع، وفضولاً ليس له داع.
كان الجيل الذي عاش حقبة الخمسينات، يرى أن الرد الحقيقي على ما أصاب الأمة من انكسار، هو انتظام البلاد العربية في إمبراطورية قوية، تهابها دول العالم، وتحسب لها ألف حساب.
وكان أبلغ من عبر عنها في حينه المفكر الكبير قسطنطين زريق في كتابه معنى النكبة، بل إن المؤرخ الشهير أرنولد توينبي وضع كتاباً في الستينات عنوانه : (الوحدة العربية آتية)، شرح فيه الأسباب الموضوعية لهذه الفكرة، لكن شيئاً من هذا لم يتحقق، وبمرور الوقت اشتدت دواعي الفرقة، وتعاظمت مبررات الشقاق.
لقد باتت المجتمعات العربية راغبة في الانكفاء على ذاتها، كارهة للعيش في دولة مترامية الأطراف،وق د ألفت ثقافة العزلة، واعتادت على تدبير أمور حياتها، دون تدخل من أحد، وهي بذلك تشبه المجتمعات الأوربية في العصور الوسطى، قبل أن يتولى ملوكها مهمة توحيدها في دول قومية.
كان أول ما فعله هؤلاء بعد ضمهم الأقاليم والمقاطعات المتناثرة، أن فرضوا لغة واحدة للإدارة والثقافة، فاللغة الجامعة للثقافة والآداب والفنون والتعليم والتواصل، هي التي حفظت بلدانهم من التفكك، وهي التي دفعتهم للالتحام مع بعضهم البعض.
والهند أبرز مثال على ذلك. إذ أن حكومة نائب الملك البريطاني في الهند أسهمت – دون قصد منها ربما – في حفظ وحدة هذه البلاد المترامية الأطراف ذات 26 لغة رئيسية، و300 لغة هامشية باعتماد اللغة الانكليزية لغة رسمية.
وللأسف فإن أنظمتنا الحاضرة تساهلت مع اللغات المحلية في بعض البلدان العربية، وكان ذلك دافعاً لإثارة النزاعات والثورات، وتراجع التفكير ليس بالوحدة العربية فحسب، بل في الوحدة الوطنية أيضاً، حتى أن بلداناً انقسمت على نفسها مثل السودان، وكاد غيرها أن ينقسم مثل العراق.
إن دول أوربا متعددة القوميات آمنت في ما بعد، أن من الخير لها أن تلتئم في كيان واحد، هو الاتحاد الأوربي، وأن تتخذ إجراءات ضرورية مثل فتح الحدود وتوحيد العملة وإلغاء قيود التجارة، وغير ذلك من الأمور، وهذا تطور عابر للغات والثقافات والقوميات دون شك، وهو ما حفز دولاً عربية على الائتلاف في اتحادات شكلية، مثل مجلس التعاون الخليجي، واتحاد دول المغرب العربي، وآخرها مجلس التعاون العربي الذي انفرط عقده بدخول الحرس الجمهوري العراقي الكويت في آب 1990. مثل هذا الأمر يعني أن وحدة جغرافية يمكن أن تكون بديلاً عن وحدة شاملة، إذا ما اقتضت الظروف.
ومما يبعث على التفاؤل، التقارب الشديد بين بعض الشعوب العربية، كلما واجهت المحن، وابتليت بالخطوب، وهذا ما حدث الآن بين سوريا والعراق، الدولتين المتجاورتين اللتين خاضتا حروباً طاحنة مع عدو واحد، حاول ابتلاعهما بكل غلظة ووحشية.
من الصعب الآن التكهن بما سيحدث لفكرة الوحدة العربية في القرن الواحد والعشرين، فهي الآن في خمود تام، والناس عنها في شغل، ودعاتها تواروا عن الأنظار، ولم تتبق منهم إلا قلة قليلة لا حول لها ولا قوة.
لكن من المحتمل جداً في حال نجحت خطط التنمية في هذه البلدان، أن يتصاعد من جديد تيار وحدوي بنمط جديد، مختلف قادر على الحصول على إجماع لم يكن متاحاً في يوم من الأيام.