الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حلم‭ ‬الوحدة

بواسطة azzaman

حلم‭ ‬الوحدة

محمد زكي ابراهيم

‭ ‬

من‭ ‬أكثر‭ ‬الأمور‭ ‬إثارة‭ ‬للعجب،‭ ‬ومدعاة‭ ‬للاستغراب،‭ ‬عزوف‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الوحدة،‭ ‬واستبدالها‭ ‬بالتجزئة،‭ ‬ورفضهم‭ ‬القبول‭ ‬بالجماعة،‭ ‬وميلهم‭ ‬للعيش‭ ‬على‭ ‬انفراد،‭ ‬وهم‭ ‬يعلمون‭ ‬أنهم‭ ‬بهذه‭ ‬الحال،‭ ‬يلقون‭ ‬بأنفسهم‭ ‬في‭ ‬التهلكة،‭ ‬ويعرضون‭ ‬وجودهم‭ ‬للخذلان‭.‬

وقد‭ ‬مر‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كانوا‭ ‬يحلمون‭ ‬فيه‭ ‬بوطن‭ ‬واحد،‭ ‬وزعامة‭ ‬واحدة،‭ ‬لكن‭ ‬مجرد‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬بات‭ ‬الآن‭ ‬هرطقة‭ ‬لا‭ ‬تجدي،‭ ‬ولغواً‭ ‬لا‭ ‬ينفع،‭ ‬وفضولاً‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬داع‭.‬

كان‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬حقبة‭ ‬الخمسينات،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الرد‭ ‬الحقيقي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬انكسار،‭ ‬هو‭ ‬انتظام‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إمبراطورية‭ ‬قوية،‭ ‬تهابها‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وتحسب‭ ‬لها‭ ‬ألف‭ ‬حساب‭.‬

وكان‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬عبر‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬المفكر‭ ‬الكبير‭ ‬قسطنطين‭ ‬زريق‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬معنى‭ ‬النكبة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المؤرخ‭ ‬الشهير‭ ‬أرنولد‭ ‬توينبي‭ ‬وضع‭ ‬كتاباً‭ ‬في‭ ‬الستينات‭ ‬عنوانه‭ : (‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬آتية‭)‬،‭ ‬شرح‭ ‬فيه‭ ‬الأسباب‭ ‬الموضوعية‭ ‬لهذه‭ ‬الفكرة،‭  ‬لكن‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يتحقق،‭ ‬وبمرور‭ ‬الوقت‭ ‬اشتدت‭ ‬دواعي‭ ‬الفرقة،‭ ‬وتعاظمت‭ ‬مبررات‭ ‬الشقاق‭.‬

لقد‭ ‬باتت‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬راغبة‭ ‬في‭ ‬الانكفاء‭ ‬على‭ ‬ذاتها،‭ ‬كارهة‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف،وق‭ ‬د‭ ‬ألفت‭ ‬ثقافة‭ ‬العزلة،‭ ‬واعتادت‭ ‬على‭ ‬تدبير‭ ‬أمور‭ ‬حياتها،‭ ‬دون‭ ‬تدخل‭ ‬من‭ ‬أحد،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬تشبه‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتولى‭ ‬ملوكها‭ ‬مهمة‭ ‬توحيدها‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬قومية‭.‬

كان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬هؤلاء‭ ‬بعد‭ ‬ضمهم‭ ‬الأقاليم‭ ‬والمقاطعات‭ ‬المتناثرة،‭ ‬أن‭ ‬فرضوا‭ ‬لغة‭ ‬واحدة‭ ‬للإدارة‭ ‬والثقافة،‭ ‬فاللغة‭ ‬الجامعة‭ ‬للثقافة‭ ‬والآداب‭ ‬والفنون‭ ‬والتعليم‭ ‬والتواصل،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬حفظت‭ ‬بلدانهم‭ ‬من‭ ‬التفكك،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬دفعتهم‭ ‬للالتحام‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭.‬

والهند‭ ‬أبرز‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬حكومة‭ ‬نائب‭ ‬الملك‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬أسهمت‭ ‬–‭ ‬دون‭ ‬قصد‭ ‬منها‭ ‬ربما‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬وحدة‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬المترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬ذات‭ ‬26‭ ‬لغة‭ ‬رئيسية،‭ ‬و300‭ ‬لغة‭ ‬هامشية‭ ‬باعتماد‭ ‬اللغة‭ ‬الانكليزية‭ ‬لغة‭ ‬رسمية‭.‬

وللأسف‭ ‬فإن‭ ‬أنظمتنا‭ ‬الحاضرة‭ ‬تساهلت‭ ‬مع‭ ‬اللغات‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬دافعاً‭ ‬لإثارة‭ ‬النزاعات‭ ‬والثورات،‭ ‬وتراجع‭ ‬التفكير‭ ‬ليس‭ ‬بالوحدة‭ ‬العربية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية‭ ‬أيضاً،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬بلداناً‭ ‬انقسمت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬مثل‭ ‬السودان،‭ ‬وكاد‭ ‬غيرها‭ ‬أن‭ ‬ينقسم‭ ‬مثل‭ ‬العراق‭.‬

إن‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬متعددة‭ ‬القوميات‭ ‬آمنت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تلتئم‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬واحد،‭ ‬هو‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي،‭ ‬وأن‭ ‬تتخذ‭ ‬إجراءات‭ ‬ضرورية‭ ‬مثل‭ ‬فتح‭ ‬الحدود‭ ‬وتوحيد‭ ‬العملة‭ ‬وإلغاء‭ ‬قيود‭ ‬التجارة،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬وهذا‭ ‬تطور‭ ‬عابر‭ ‬للغات‭ ‬والثقافات‭ ‬والقوميات‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حفز‭ ‬دولاً‭ ‬عربية‭ ‬على‭ ‬الائتلاف‭ ‬في‭ ‬اتحادات‭ ‬شكلية،‭ ‬مثل‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي،‭ ‬واتحاد‭ ‬دول‭ ‬المغرب‭ ‬العربي،‭ ‬وآخرها‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬انفرط‭ ‬عقده‭ ‬بدخول‭ ‬الحرس‭ ‬الجمهوري‭ ‬العراقي‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬آب‭ ‬1990‭.  ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬وحدة‭ ‬جغرافية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬وحدة‭ ‬شاملة،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اقتضت‭ ‬الظروف‭.‬

ومما‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬التفاؤل،‭ ‬التقارب‭ ‬الشديد‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬كلما‭ ‬واجهت‭ ‬المحن،‭ ‬وابتليت‭ ‬بالخطوب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق،‭ ‬الدولتين‭ ‬المتجاورتين‭ ‬اللتين‭ ‬خاضتا‭ ‬حروباً‭ ‬طاحنة‭ ‬مع‭ ‬عدو‭ ‬واحد،‭ ‬حاول‭ ‬ابتلاعهما‭ ‬بكل‭ ‬غلظة‭ ‬ووحشية‭.‬

من‭ ‬الصعب‭ ‬الآن‭ ‬التكهن‭ ‬بما‭ ‬سيحدث‭ ‬لفكرة‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين،‭ ‬فهي‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬خمود‭ ‬تام،‭ ‬والناس‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬شغل،‭ ‬ودعاتها‭ ‬تواروا‭ ‬عن‭ ‬الأنظار،‭ ‬ولم‭ ‬تتبق‭ ‬منهم‭ ‬إلا‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬المحتمل‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬نجحت‭ ‬خطط‭ ‬التنمية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلدان،‭ ‬أن‭ ‬يتصاعد‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬تيار‭ ‬وحدوي‭ ‬بنمط‭ ‬جديد،‭ ‬مختلف‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬إجماع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متاحاً‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭.‬


مشاهدات 271
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/11/16 - 2:18 PM
آخر تحديث 2025/01/22 - 9:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 112 الشهر 11089 الكلي 10291054
الوقت الآن
الجمعة 2025/1/24 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير