المقالة العربيّة تجنيسها وأنواعها وشعريّتها
شكل أدبي ينطوي على مفهوم فني
سلوى جرجيس سلمان
تُعَدُّ المقالة فنّا من الفنون النثريّة التي تنفرد بمزايا نصية تميّزها من غيرها من الأنواع الأدبيّة، منها أنها تكتب قطعة نثرية معتدلة في الطول، ذات موضوع محدد وبأسلوب جميل ومؤثر، مع الاستعانة بشيء من الخيال دون تكلف، أو افراط في التعبير، مع شرط في صدق التجربة الشخصية للكاتب.
وقد اختلف الباحثون حول نشأة المقالة في تأريخ الأدب، ولاسيما بعد ظهورها في الآداب الاوروبية في القرن السادس عشر، وانتقالها إلى الآداب الأخرى ،ثم أخذت المقالة تتطور حتى اصبحت نوعا أدبيا قائما بذاته في القرن الثامن عشر، ومن ثم بدأت تأخذ منحى آخر في تناول الموضوعات، فتنوعت إلى المقالة الشخصية ،والعلمية ،و النقدية وغيرها، وكان هذا في القرن التاسع عشر في بلدان كثيرة .
نشأة المقالة
ولعلّ هذا الاختلاف حول نشأة المقالة، وتطورها نتج عنه تساؤلات عديدة حول تجنيسها ،وانواعها ، وشعريتها ،وهو ما دفع الدكتور (فاضل عبود التميمي) ، والدكتورة (لطفية عبدالله الحمادي) لأنْ يشبعا هذه التساؤلات بحثا ودراسة وتفصيلاً في كتابهما: (المقالة العربية n تجنيسها أنواعها شعريتها) الصادر عن دار (مجدلاوي- الأردن ) 2016.
جاء بناء الكتاب في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ومسرد للمصادر والمراجع ، درس الفصل الاول (تجنيس المقالة) وقد تركّز العمل فيه على طبيعة تشكلّها النصي بدءا من تعريفها لغة واصطلاحا ،ثم التطرق الى نشأة المقالة وتطورها في الأدب الغربي من خلال التعرض إلى الآراء التي تذهب إلى أن للمقالة أصلا في تراث الغرب ،عندها يقدّم الكتاب الآراء التي انقسمت بين مؤيد لفكرة معرفة العرب للمقالة ، وكان من بينهم الناقد عباس محمود العقاد ،ود. محمد مندور، و عمر الدسوقي، و د.عبد اللطيف حمزة، ود. محمد يوسف نجم ، ود .فائق مصطفى ، وبين من ينفي ذلك مثل : د. انيس المقدسي، ود. شوقي ضيف، د. صالح ابو اصبع، ود. محمد عبيد الله، ولا يتوقف الكتاب عند هذين الفريقين بل يقدّم لنا فريقا آخر يوازن بين الرأيين وكان من بين هؤلاء د. عزالدين اسماعيل واخرون ، ثم يخلص الكتاب إلى القول إنه إذا كان ((لا ينكر تأثّير المقالة الغربية في بناء المقالة العربية الحديثة , فإنه لا ينكر أيضا أن للمقالة جذرا في تراث العرب لاسيما في رسائلهم)) ص(27) ، و يتجه الكتاب نحو تأويلات ،وطروحات تتبع تاريخ المقالة العربية، ومراحل تطورها وتحديد اشكالها.
وبعد أن يتحدّث الكتاب عن بعض فنون النثر في الأدب العربي القديم مثل: الرسائل ، والفصول ، والخطابة ، والمقامة، ويعرض آراء المتخصصين فيها، وفي تقاربها من المقالة ،يتوصل إلى أن الرسائل قد تكون اقرب الأنواع الأدبية التي يمكن ان تكون أصلا للمقالة استنادا الى آراء سابقة ، واحتمالات يمكن الركون إلى دلالاتها.
ثمّ يتعرض النقاش في هذا الفصل الى مسألة مهمة هي مسألة جنسيّة المقالة ، فيقدّم لنا بعض المصطلحات التي اطلقت من أجل توصيف الشكل الأدبي للمقالة منها: مصطلح (الفن ) ، وهذا المصطلح كان حاضرا عند المقاليين الرواد أمثال: د. محمد مندور ، ود. محمد يوسف نجم، بينما هنالك من الأدباء من نعت المقالة بــ( النوع ) ،وهذا ما كان عند: د. عزالدين اسماعيل ،ود .علي جواد الطاهر، وهنالك من وصفها بــ (الجنس) ,مثل :د. فائق مصطفى ،ود. غنام محمد خضر، ثم يحدد الفصل توصيف المقالة بالنوع ، وذلك لأنّ:((النوع) درجة تنظيم لتفرعات (الجنس) الذي هو أعلى درجة من النوع ، أي أنّ النوع نمط تابع الى الجنس )) ص 40 ،فضلا عن (( أن عدّ المقالة نوعا نثريا يعني امتلاكها مزايا نصيّة لا يمكن أن تتواجد في أنواع أدبية اخرى ،وهي بالضرورة تتبع جنسا أعلى))ص 42.
ويتناول (المؤلفان) في هذا الفصل موضوع انحسار المقالة في فترة من الفترات مبينا الأسباب التي أدّت الى ذلك ، حسب رأي كل ناقد وحجته في ذلك ، والرد على كلّ رأي من هذه الآراء بالإيجاب ،أو الرفض لجزء منها، أو لجلَه ، وعلى الرغم من انحسار المقالة في فترة من الفترات إلا أن الفصل يؤكد مسألة الوعي بأهمية المقالة ونقدها، وأنها مازالت موجودة وحيّة في حياة الأدب العربي ، والدليل على ذلك الكم الكبير من الجهود الجامعية التي توجهت نحو دراسة المقالة ،ونقدها ، ومما يشير اليه البحث في هذا الفصل بشيء من التفصيل جهود د. فائق مصطفى الذي كتب عن المقالة ،وأشرف على رسائل ،و أطاريح سُجلت عنها ، وكذلك الرسائل والأطاريح التي كتبت عن المقالة ،و المقاليين بإشراف اساتذة معروفين سواء أكانوا في العراق ، أم في غيره من البلدان العربية .
أما الفصل الثاني من الكتاب فقد تناول انواع المقالة ، وفيه تمّ تحديد أنواع المقالة باعتبار المنشأ مرة ، ومرة باعتبار الأسلوب, وأخرى بحسب المضمون ، وتقديم الأنواع بهذا الشكل فيه إرباك للمتلقي ،ولاسيما المتلقي غير المختص بمجال الأدب ، فضلا عن ذلك فان هذه التقسيمات لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض بل تتداخل بعضها مع بعض، وإلى هذا التداخل يشير الكتاب أيضا، واذا اردنا ان نخرج بنتيجة أو بتقسيم واحد لهذه الانواع ، فإننا لن نبتعد كثيرا عن تقسيمها على المقالة الذاتية ،والمقالة الموضوعية ، واذا اراد القارئ المتخصص، أو الناقد أن يقف عند أحد هذين النوعين فإنه سيدرس المقالة من حيث البناء ،والأسلوب والمضمون .
وفي ما يخص الفصل الثالث فقد درس شعرية المقالة، وهذا الفصل مهم جدا؛ لأن أهم ما يميز النص المقالي من غيره من النصوص الأدبية هو اللغة الشعرية التي تكشف عن القيمة الجمالية ، أو الشعورية في البنية الكلية للنص، والتي تتشكل عن طريق الرمز، أو الاشارة ، أو الحوار والسرد، والايقاع ، والتناص ،فضلاً عن التراكيب النحوية، والصور الفنية الغنية بالمظاهر البلاغية.
وقد تطرق الفصل إلى الالفاظ القريبة إلى دلالة الشعرية في النقد العربي القديم، ومن ثم حدّد مفهوم هذا المصطلح على وفق رؤية (ياكبسون) بأنها تكمن في العلاقة المتشابكة والوشيجة بين المرسل، والمرسل اليه ، والرسالة ، والسياق والشفرة ،وقناة الاتصال ، هذه العلاقة التي تضفي على لغة النثر طابع لغة الشعر فتمنحها صفة التفرد عن غيرها من النصوص ، فضلاً عن ذلك أشار الكتاب بشيء من التفصيل إلى النقاد الرواد الذين لم يتحدثوا عن هذا المصطلح كما نفهمه اليوم ,امثال :أحمد أمين ، وزكي نجيب محمود ، وعلي جواد الطاهر الذي حدّد شروط (الشاعرية) في النصّ المقالي بالتصوير، والتأنق، والحوار، والتماسك، وأمور أخرى .
ويقدم هذا الفصل حدود شعرية المقالة كما اقترحها د. فائق مصطفى في كتابه (دفاع عن المقالة الادبية) والشعرية عنده تتمثل في الذاتية ، والعفوية، والصورة، وخصائص التركيب ، والايقاع ، والتناص ، والسرد، وكلّ مكون من هذه المكونات حظى بشرح يكشف عن أثره ، وعلاقته بالمكونات الأخرى ، وبما يسهم به في اضفاء حسّ شاعري على النص، والبحث في هذا الفصل لا يتوقف عند هذا كتاب د. فائق فحسب بل ينهل من كتب أخرى، وبما يعزز ما يذهب اليه من رأي، فضلا عن أنه يكشف لنا عن مدى حرص المؤلّفين في تقديم كل ما له علاقة بالموضوع , وبما يغنيه من مادة. جهد جاد
وختاما فإن هذا الكتاب يكشف عن جهد جاد، ومثمر، فهو يحوي مادة غنية، وقيمة ذات فائدة كبيرة لطلاب العلم في مجال الأدب لاسيما أن أقسام اللغة العربيّة في الجامعات العراقية بدأت تدرّس المقالة في المرحلة الرابعة، والكتاب وجه من وجوه التعاون العلمي بين أساتذة الجامعات العربيّة في التأليف فالمؤلف الأول من العراق ، والمؤلّفة الثانية من الإمارات العربية ، ويبدو أنّ اخلاصهما للمقالة وحبهما لها كان وراء تأليف الكتاب ، فضلا عن أن هيبة المقالة بدأت تعود الى الصحافة العربية ،والمحافل الأدبية فضلا عن الجامعات ، لذا يعد هذا الكتاب من الكتب القيمة في حقل تاريخ المقالة الأدبية وفنيّتها ، فهو اضافة جديدة إلى مكتبة اللغة العربية على نحو عام، وإلى مكتبة الأدب الحديث على نحو خاص .