إستيفاء أجور السقي هل يزاحم قداسة الماء ؟
جمعة الدراجي
أن حق الحصول على المياه حق إنساني بدون أية مقايضة عينية او قيم مادية ،وللماء قداسة كما أقرتها الشرائع السماوية ، والقوانين الوضعية المختصة بالمياه ، التي تؤكد أن مياه الأرض لابد وأن تُغذى من أجل بقاء البشرية ويحذر عدد من المفكرين ان بدون احترام الماء، لا يمكن أن يكون هناك احترام للحياة» كل ديانة وطائفة دينية لديها تقديس خاص للمياه ، وجود المياه المقدسة، يشفي الناس ويطهرهم من الخطايا،و معتقدات المياه راسخة ، إما أن تكون مقدسة بذاتها أو مورد طبيعي تختزل بداخلها سر الشفاء والبركة، وفي كتابه «مغامرة العقل الأولى» يقول الباحث فراس السواح ( أن فكرة الميلاد المائي للحياة تتكرر في كل الحضارات السابقة والأديان السماوية ). ان قصة عطش إسماعيل عليه السلام حاضرة بكل دلالاتها العقائدية والرمزية بطقوس الحج ، كأنك وانت تؤدي مراسيم الحج تعيش اجواء محنة العطش ، والعطش مفردة لها أعماق في اللغة وفي الوجدان الإنساني حتى عندما يسعى الحاج بين الصفا والمروة يحضر العطش وتحتاج في تلك اللحظات إلى الماء، فيكون ماء زمزم متاحا في اركان المكان المقدس. وكأنك المكين الذي ينتابه شعور القشعريرة او قوة كهرومغناطيسية تشد الشعائر و تشعر بإزاحة الذنوب مع اول رشفة ماء تبل ريقك تستحضر كل الادبيات الدينية التي اشارت الى ظهور زمزم في سنة 2572 قبل ميلاد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- تقريبًا .
سبعة أشواط
يواجه الحاج في هذا المكان طقسية فريدة من نوعها وهو ما يجعل بينها وبين ظهور زمزم بالتقويم الهجري حوالي أربعة آلاف سنة، حينما قدم إبراهيم -عليه السلام- إلى مكة هو وأم إسماعيل، وكان إسماعيل طفلاً رضيعًا، وترك أم إسماعيل وابنها في مكان زمزم، وكانت معها وعاء ماء فأخذت تشرب منه وتدر على ولدها حتى في ماء الوعاء؛ فانقطع درها؛ فجاع ابنها واشتد جوعه حتى نظرت إليه يتشحط قال: فحسبت أم إسماعيل أنه يموت؛ فعمدت إلى الصفا قبل ان يرفس الصخرة ثم ذهبت من الصفا إلى المروة حتى كان سعيها بينهما سبعة أشواطا ، ثم رجعت إلى ابنها تستوضح ما آلت عليه الأمور فرأته مشرقا فسمعت صوتًا؛ فقالت: أسمع صوتك فأغثنى إن كان عندك خير: قال: فضرب جبريل الأرض؛ فظهر الماء، أدارت حوله حوض من الرمل أم إسماعيل لترده خشية أن يفوتها، قبل أن تأتي بالوعاء؛ فشربت ودرت على ابنها.ان الحاج المهتم بالمياه يشعر ويستحضر ذلك ايما شعور روحي .
وحتى في الديانات السماوية الأخرى هناك قدسية عظيمة للمياه .
وحكاية بئر يعقوب في السامرة الذي شرب منه عيسى بالقرب من الجليل، ولا توجد مدينة بدون مصدر للمياه بل لا توجد كنيسة بلا بئر للمياه العذبة .
ومن المسلمات التي تستحضرها الذاكرة التاريخية ان احد اسرار وجود الديانات القديمة في العراق هو الماء .
واحد اسرار وجود الحضارات القديمة في العراق هو الماء . وبعض الديانات لها ارتباط وثيق بالماء كالديانة المندائية في جنوب العراق وقصص التعميد للولادات والأعراس وغسل الذنوب وتغسيل الموتى وغيرها .
طقسية الحزن العاشورائي وتراجيديا العطش والحيلولة دون الفرات ،و للماء المكانة التي ترافق وتؤجج الحدث الدرامي لملحمة الطف الخالدة .
لذلك قيل ان المياه ليست سلعة للتداول والمقايضة بل هي حق إنساني والديانات أضفت عليها شرعية الإتاحة كصفة القداسة ، وقصة الخليقة وقوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي ).ارتكاز رباني ( يفسر الماء نفسه الماء) .
ان تسعيرة المياه ، رسالة واضحة تنمي الطموح الجامح إلى الدول المنتجة للمياه بجعل الماء سلعة؟ وبورصة سلعية خاضعة لمبدأ العرض والطلب، والتي سبق وان اعلنها سليمان ديميرل الرئيس التركي السابق عام 1990 عند افتتاح احد السدود في ذلك الوقت وتوالت الدعوات بعدة مناسبات ، ودعوتهم لبيع المياه جملة والدولة تبيعها كمستحوذ ثانوي إلى المستخدم وهنا قد تظهر بعض المشاكل لا طائل للدولة على معالجتها لصعوبة وتأخر سن القوانين لمعالجتها. وعلى المستوى الدولي تسعيرة المياه تتنافى مع العرف القانوني الدولي للمياه ، ولا يوجد قانون جزائي في القانون الدولي للمياه يردع سلوك دول التشارك المائي بوضع المياه موضع المقايضة ، وتسعى تلك الدول للمقايضة بالتبادل القطاعي وهذا اشمل واخطر من التسعيرة بالأموال ، ذلك ما اتضحت معالمه في توقيع الاتفاقية الإطارية بين الحكومتين العراقية والتركية في 22/نيسان / 2024 الذي ارتبط حضور ملف المياه ضمن 26 اتفاق إطاري بوعود غير محدد الكمية من الاطلاقات وغير معلنة التوقيتات رغم مرور ثمانية أشهر على زيارة السيد رجب طيب اردوغان الى بغداد وتوقيع تلك الاتفاقية التي لم تجتمع اي لجنة فنية عقبها . وإنما جائت المفاوضات بربط العناصر بطريقة تكافؤ الفرص لقطاعات مختلفة يختلف تداولها عن التشارك المائي جملة وتفصيلا.
ان الخط البياني المتراجع للخزين الاستراتيجي المائي وعدم قدرة العراق بالحصول على الحصة المعقولة من المياه يدعو (الجمل لفتح شراين السنام ) للحفاظ على خط الحياة ، ولإعادة هيبة المجرى البيئي للانهار تغذى من الخزين بعد تعذر ورودها من مصادرها الطبيعية من دول المنبع .
إعادة العمل بقانون سبق وان أقرته الأنظمة السابقة باستيفاء أجور سقي الأراضي الزراعية في العراق التي اعلنتها وزارة الموارد المائية حسب قرار مجلس الوزراء رقم 23692 لسنة 2023 ، واكدت ان الأجور ستخفض بنسبة 50% للفلاحين والمزارعين الذين يستخدمون تقنيات الري والبزل الحديثة وتخفيض أجور السقي بنسبة 100% لمربي الأسماك الذي يستخدمون التقنيات الحديثة وانها ستستوفى بدءاً من العام 2025 وهي محاولات لكسر ردود الأفعال المتوقعة ، كما ودعت الوزارة الى الورش التي تثقف المزارعين على ان العمل باستيفاء اجور السقي يساعد على عدم هدر المياه ، لكسر قناعات المزارعين لاعلام وإظهار الجانب المشرق تبعا لنظرية التأطير الإعلامى ، لكن هناك من يرفض هذا القرار وأعتبر محاربة للفلاحة وتقليص فرص الربح بل توقع اخرون استيفاء جور السقي لا يحد من عمليات هدر المياه بقدر ما يرفع كلف الإنتاج الزراعي ، فالتقنيات الحديثة والمتطورة واستخدام الري المغلق والمتطور كفيل بتقليل الاستهلاك المبذر وتقليل الهدر وزيادة الإنتاج .
والسؤال هل ان هذه الأجور لها مقابل لتأمين خطة زراعية لكافة الأراضي الزراعية المتعاقد عليها.؟
لدعم الأمن الغذائي للبلد .
هل تذهب الأموال إلى اعادة هيكلة المشاريع الاروائية وتصميمها وفق التقنيات الحديثة؟
هل توفر أنظمة التحسس النائي الحقلي للنباتات حسب حاجة النبتة للرطوبة وبالتالي لمعالجة الهدر ؟
هل ان متخذ القرار المائي طموح لتعظيم الموارد المادية لمؤسسته؟ ام تعظيما للموارد المائية؟.
قد يبرز هذا التوجه في الوقت الذي انحسرت مساحات شاسعة بتقليص خصوبتها بل تعرضت
للتصحر واغلب الأراضي البعيدة عن المصدر المائي تملحت بسبب تغير نوعية المياه و ارتفاع درجات الحرارة وتفاعلها مع الرطوبة لبعض الأوقات الطقسية ، وحدثت هجرة القرى وخاصة مناطق الأهوار المتسببة بالتغير الديموغرافي للسكان .
ويبقى ملف المياه بحاجة الى مراجعة الكثير من الأمور سواء كانت على المستوى الخارجي أو الداخلي.