حوار النجف – أربيل
عبد الحسين شعبان
حللت ضيفًا على الجولة الثانية من الحوار بين النجف وأربيل (21 كانون الأول / ديسمبر 2024)، حيث كانت الجولة الأولى قد التأمت في أربيل، أما الجولة الثانية فكانت في مدينة النجف الأشرف، وفي فندق قصر الخورنق، وقد استذكرت اسم مدرستي المتوسطة «مدرسة الخورنق» في النجف، ومديرها المربي القدير عبد الرزاق رجيب، كما استعدت تظاهرة شاركت فيها في ربيع العام 1962 قمعتها الشرطة في النجف، رفعت شعار «السلم في كردستان»، بعد أن شنّت الحكومة العراقية حملة شديدة ضدّ الكرد، فألقت عشرات القنابل على قرى بارزان، وكان ذلك تمهيدًا لإعلان ثورة 11 أيلول / سبتمبر 1961، التي شملت كردستان العراق بالكامل.
ومن المفارقة أن المناطق التي تعرّضت للقصف أصبحت اليوم متحفًا للملّا مصطفى البارزاني زعيم الشعب الكردي التاريخي، يحكي معاناته وكفاحه، كما يضمّ مقتنياته الشخصية. وكنتُ قد زرته مؤخرًا بصحبة شخصيات عربية بارزة، جاءت إلى كردستان للمشاركة في فعالية ثقافية وفكرية أقامتها د. سعاد الصباح في أربيل تحت عنوان «يوم الوفاء».
أول حوار عربي - كردي
شارك في حوار النجف – أربيل كوكبة متميّزة من الباحثين والأكاديميين والمعنيين بالشأن العام، من قطاعات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والأبحاث، شملت شخصيات عربية وكردية ومن تيارات مختلفة. ويعتبر هذا الحوار امتدادًا لحوارات سابقة انطلقت في العام 1992 بدعوة من «المنظمة العربية لحقوق الإنسان» ، والتي كنت أتشرّف برئاستها في لندن، حيث دعوتُ 25 مثقفًا كرديًا و 25 مثقفًا عربيًا من تيارات مختلفة لحوار هادئ لقضايا ساخنة، بقلب حار ورأس بارد كما يُقال، ومازالت هذه القضايا مطروحة للنقاش والجدل والسجال، بل والتصارع على الصعيد النظري والعملي في الآن .
وكان سمو الأمير حسن بن طلال قد دعا إلى حوار أعمدة الأمة الأربعة (2018)، وذلك بعد جولة ناجحة من تنظيم حوار عربي – كردي سبقه بخمسة أشهر، بُعيد الاستفتاء الكردي (أيلول / سبتمبر 2017)، وحرصًا منه على عدم تصدّع العلاقات.
أسئلة وتساؤلات
ولعلّ حوارات المجتمع المدني هي مجسّات للقضايا الشائكة والعويصة والتي لم تجد حلولًا بعد، وهي تندرج ضمن ما يُعرف بالديبلوماسية الشعبية وفرعها الديبلوماسية الثقافية، وهكذا يتوالد الحوار العربي الكردي، وعناوينه متواصلة؛
ماذا يريد الكرد من العرب؟
وماذا يريد العرب من الكرد؟
وما هو الموقف من المواطنة المتكافئة والمتساوية وعدم التمييز؟
وكيف السبيل لتمكين الكرد من نيل حقوقهم العادلة والمشروعة؟
هل بالحكم الذاتي أم بالفيدرالية أم بالكونفدرالية؟
ولعلّ جميع تلك الصيغ تنضوي تحت لواء حق تقرير المصير. ويمكن الذهاب إلى أسئلة متفرّعة من هذه الصيغة؛
هل يحق للكرد تأسيس دولة؟
وما هي مواصفاتها؟
وكيف ستكون علاقتها مع العرب؟
وهل ستُقام الدولة بعد قتال ودمار أم بالحوار والتفاهم؟
في السنوات التي أعقبت انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، بدأت العديد من الدول تتأسس بانتعاش الهويّات الفرعية، ولاسيّما بعد انتهاء الأنظمة الشمولية، حيث انقسم الاتحاد السوفيتي السابق إلى 15 دولة ويوغوسلافيا إلى 6 دول، وتحلّل الاتحاد الفيدرالي بين التشيك والسلوفاك، وانبثقت دولتان بالتراضي، وعلى نحو مخملي، فهل سيشهد العالم دولة كردية خلال السنوات المقبلة، تساوقًا مع الموجة العالمية للتعبير عن الهويّات الخاصة؟
الضرورات والمحظورات
لعلّ ثمة قاعدة فقهية تقول الضرورات تبيح المحظورات، فما كان قبل ثلاثة عقود ونيف من الزمن محظورًا، أصبح اليوم متاحًا وممكنًا في ظلّ توازنات جيوبوليتيكية، فكيف سيتم التعامل معه؟
يمكن القول أن من مصلحة العرب أن تكون الدولة الجديدة صديقة لهم وشريكة معهم، كما أن من مصلحة الكرد أن يكون العراق والعرب حلفاء وشركاء وأصدقاء لهم، لما يمتلكون من روابط ومشتركات دينية واجتماعية وثقافية وتاريخية.
من بؤرة الصراع إلى مركز للتفاهم
لا بدّ لكردستان وعاصمتها أربيل، أن تلتقط الفرصة لتتحوّل إلى ملتقى للتفاهم والتواصل والتفاعل مع محيطها التركي والإيراني وبالطبع العربي، على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة لتحقيق التنمية المستدامة بالتعاون مع دول الإقليم، فلم تعد هي بؤرة احتراب وصراع وتجاذب، بل مركز استقطاب جاذب، في ظلّ أوضاع سلمية واستتباب للأمن والأمان، وعلاقات متوازنة تحترم الخصوصيات وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية.
ويستفاليا والحوار المنشود. الحوار اليوم يستهدف البحث عن المشتركات الجامعة وليس المختلفات المفرّقة. هنا يمكن تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها، لاسيّما في العلاقة بين الهويّات الجامعة الوطنية وبين الهويّات الفرعية الخاصة.
كما يمكن البحث عن القيم المشتركة، وأعني بها الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وهذه لعمري تمثّل أسس المواطنة المتساوية والمتكافئة في الدولة العصرية.
بقدر ما تحتاج دول الإقليم إلى حوار أقرب إلى ويستفاليا مشرقية، يضم الترك والفرس والكرد والعرب، ويمكن أن أضيف الأمازيغ بالنسبة للمغرب العربي، فإن كلّ دولة من دول الإقليم تحتاج إلى ويستفاليا داخلية للاعتراف بالآخر وعلى قدم المساواة في تقرير المصير، وفي ممارسة حقوقه كاملةً وغير منقوصة، في إطار حكم القانون وشرعية سياسية تحظى بثقة الناس وتقديم منجز لهم.
للتاريخ صداه
تعود علاقة النجف بأربيل إلى فترة الستينيات، فلم تكن مرجعية النجف على توافق مع حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، ولعل هذا الموقف كان أحد أسباب الإطاحة به في انقلاب شباط / فبراير 1963، إضافة إلى موقف الكرد منه، وثمة أسباب أخرى لا مجال لذكرها.
ومن أبرز ملامح علاقة النجف بأربيل ما نُسب إلى السيد محسن الحكيم (1889 – 1970) المرجع الأول حينها، من تحريمه القتال ضدّ الكرد في العام 1965، حين سأله بعض الشخصيات عن شرعية هذا القتال، فأفاد «إنهم مسلمون تجمعهم مع العرب روابط الأخوّة والدين».
استحقاقات سياسية
وخارج نطاق علاقات الكرد بالحكومات العراقية المتعاقبة، لم يجرِ حوار مجتمعي بين العرب والكرد، مع أن العلاقات بينهم كانت طيبة، ويعود السبب إلى الاصطفافات السياسية الحادة، فأمّا مع الكرد ومؤيد لحقوقهم، وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة، وإمّا ضدّهم باعتبارهم «بغاة يجب قتلهم»، كما ورد في «مؤتمر علماء الإسلام» (1964)، الذي شارك فيه بعض رجال الدين العرب المتأثرين بالتيار القومي – الناصري، حيث صدر مثل ذلك الحكم ضد الكرد. وكان الرئيس عبد السلام محمد عارف يُنكر على الكرد هويّتهم ويعتبرهم عربًا سكنوا الجبال، مثلما تعتبرهم الشوفينية التركية ترك سكنوا الجنوب. وحين طُلب من السيد الحكيم تأييد هذا الرأي، رفض ذلك، وبحسب ما رُشّح من معلومات بأن سبب الرفض كان يرتكز على ثلاث اعتبارات؛ أولها – فقهية، والمقصود عدم شرعية الحكومة في ظلّ الفقه الشيعي بغياب الإمام المهدي المنتظر، وثانيها – إنسانية، وهو أن القتال ليس هو الحل الأمثل؛ وثالثها – سياسية – مذهبية، وهي أن السيد الحكيم كان يعتبر حكومة عبد السلام عارف «طائفية».
وسبق أن أدارت النجف الأشرف حوارات مهمة مع الأزهر الشريف ومع الفاتيكان، والجدير أن يكون الحوار مع أربيل عربيًا – كرديًا شاملًا لعرب العراق مع كرد العراق، إضافة إلى خصوصية مرجعية النجف، فهذه المدينة المفتوحة تحظى بمكانة خاصة لوجود مرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع) فيها، حيث تُعتبر معهدًا دراسيًا مضى على تأسيسه أكثر من 1000 عام، مثلما هي ملتقى الأعراق واللغات، وإن كانت اللغة العربية هي البوتقة لاحتواء الثقافات، الأمر الذي يمنحها جدارة بأن تلعب هذا الدور الوطني.
الحوار فرض عين
يحتاج الحوار إلى ديناميات جديدة حقوقية وقانونية واجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وتربوية وإعلامية ودينية، عبّر عنها بعض من استقبلنا من علماء الدين في النجف بالترحيب والمباركة، فحوار سنة أفضل من قتال ساعة، ولكن الحوار بحاجة إلى محدّدات وإلى آفاق مفتوحة وليس منغلقات، خصوصًا في ظل التغيرات الجيوبوليتيكية التي تشهدها دول الإقليم، وبعد فشل جميع الحلول العسكرية والعنفية، لذلك يصبح الحوار «فرض عين وليس فرض كفاية»، كما أنه ينبغي أن يكون حوارًا معرفيًا ثقافيًا، يتحوّل فيه المجتمع المدني إلى قوّة اقتراح، ولا يكون صدىً للسياسيين، لأنه سيعقّد المشهد أكثر ممّا هو معقّد.
امتاز حوار النجف – أربيل بالصراحة والتفاعل بين الفريقين، وتقارب الكثير من الآراء، مع أنه لم يخلُ من وجهات نظر متشدّدة أحيانًا، لكن التعاطي معها ومعالجتها كانت تتم بقبول حق الاختلاف والرأي والرأي الآخر، ولكي لا يبقى الحوار سائبًا ودون مخرجات، فإنه بحاجة إلى مأسسة واستمرارية وثقة متبادلة وتفاهمات وحلول وسط، فالكل ينبغي أن يشعر بأنه رابح.
أكاديمي ومفكّر