رؤية نقدية لمبدع راحل.. بذور الشيطان توثّق هواجس المدينة
قتيبة العزي
احمد صبحي الروائي والقاص الذي بدأ رحلته مع عالم الادب منذ ان سطر اول حرف وتعلم اول كلمة ليكتب من خلالها ما يجول في مخيلته وما حملته من مكنونات الحياة بشكلها العام والخاص وما تحمله جذوره التاريخية من خلال مطالعاته في الادب في الادب العربي حيث عاش الاغتراب مع كتابات جبران خليل جبران واكمل تعلمه من حروف اللغة العربية التي كان المنفلوطي يقدمها للقارئ العربي آنذاك كما تابع ما ترجم من روايات وكتابات غوغل وكوركي وديستوفسكي والكثير من كتاب الادب الروسي الذين كانوا صرحاً مهماً في تصحيح بعض مفاهيم البرجوازية الخاطئة وهكذا كانت بدايته مع (صرخة العمالقة) عام 1963 ثم قام بالتعرض على الادب الامريكي والاوربي وكانت معرفته بكتاب المنتمي واللامنتمي لكولف ولسون بداية البحث عن ملحمة خاصة به يحاول من خلالها البحث عن طريق صحيح لنفسه ككاتب رواية نثرية يثبت حضوره في الادب العراقي يأخذ الادب على محمل الجد لعرض معاناة جيل كامل بدأ تنفتح قريحته مع بداية العهد الجمهوري ومرحلة الستينات والصرعات العالمية بين الاتحاد السوفيتي وامريكا وتأثيرها على الوطن العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص ويحاول في هذه الرواية البحث عن الانسان المنعزل عن مجتمعه لكن المشاكل تأتي اليه دون إرادته وتدخل في مجرى الاحداث ليكون تائهاً مع (التائهون) عام 1964 ثم يصمت الاديب احمد صبحي ليعود الينا بعد أكثر من أربعة عقود ليكتب مجموعة قصصية طويلة عام 1998 بعنوان (الصعود الى الجحيم) يقدم ما تعرض له الانسان العراقي من قهر وحروب ومجاعة وحصار وتدمير لكل ما له علاقة بالإنسانية قامت به دول امبريالية تقودها امريكا تنتهي باحتلال العراق بعد حصار دام اكثر من عشرة سنوات وتبدأ مرحلة الاحتلال 2003 .
بذور الشيطان
أما الاحتلال فقد وثقه عام 2012 بهواجس حملت مجموعة من القصص الرمزية التي تتحدث عن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي هاجم كركوك ونتوقف عند الكتاب الاخير الذي بين يدينا ويحمل قصص بعنوان (بذور الشيطان) ويبدأ بقصة الهاجس والمجنون والتي تتميز بأسلوب الحوار والمنولوج الداخلي التي تعكس الاعماق النفسية السيكولوجية للشخصيات التي يتناولها في تارة تكون سعيدة ومرحة وفي احداث اخرى كئيبة وحزينة والكل يبحث عن الخير ومقاومة الشر للبحث عن البياض والنقاء الانساني الذي دوماً ما يمتزج بالسلام والامان ومن حوارات القصة بين الهاجس والمجنون:
(الهاجس : أيها الفتى ماذا بك خائف إلى هذه الدرجة فرحمة الله واسعة ، ألا تريد أن تمتلك الرحمة فهذا السبيل أنت سلكته فأرض بقدرك ولا تلقي اللوم على الابالسة وعلى الغير فأنت تقلبك بسوء الأعمال رضيت بقدرك واقدمت بشوق على ايماءات نفسك راغباً بالظلم والطغيان وسوء الاحوال ثم اتهمتني بتهم عديدة وابريت نفسك من الحساب وسوء العافية .
المجنون : اوقعتني في مأزق كبير لا نجاة منه ثم لمتني ايها الملعون حين اوقعتني في حياتك الخبيثة فويل لي كيف اتوب إلى ربي ، لقد فعلت ما فعلت فأوقعتني في محنة نفسي وايامي القادمة ربي سلمت امرى لرحمتك فارحمني فأنا اتوب إليك بكل احساسي ومشاعري وأطمع بغفرانك وعفوك في يوم أسود يلاحقني وأنا في النزع الأخير أوقعتني عدو عمري ودفعتني في الوحل لا استطيع النجاة منها وانا في غرغرة الموت أحس ظلمات رحيلي ، واني أرى إبليس يهمس في نفسي وروحي تتقلب في الترحال اسفة على وضعي واعمالي السيئة في الايام الماضية السوداء التي مضت واسأت إلى حياتي كانسان ثم انقطعت الهمسات وانقطعت التقلبات وكانت الكلمات الاخيرة تقول ارتحت ايها إبليس بعد أن قضيت على وارحتني من الهموم والمطاردة المستمرة به
بلغت من الإثم ما بلغت فلا استطيع الصبر على نفسي فأنت القادر ياربي على مداوة جروح قلبي وضياع املي في الحياة المضطربة فانت كل املي بعد ان اضعت كل شيء في صراع نفسي مع الشيطان، يا عالم الصمت حرت وحارت من صمتك الدهاة فلا ادري كيف انقذ نفسي من ظلمات تطاردني في دهر إلى دهرٍ وانا عاجز عن حماية نفسي التي تتزحلق إلى الجحيم مسرعاً بعد فقدت الامل في البقاء) .
اما قصة نورهان امرأة تبحث عن ذاتها فهي عن الحياة الاجتماعية وصراع المرأة مع المجتمع وما يحمله من تقاليد انسانية وما تحمله من اخطاء فهي تقدم لنا نموذج لمرحلة الشباب الذي يبحث عن الحرية في الثقافة والفن بعد ان الهبت عواطفه الكتب والروايات وافلام السينما والاغاني التي جاشت بعواطفهم ودفعتهم الى الكثير من الاخطاء التي اسقطتهم في شر اعمالهم بوقوعهم في براثين الحب المحرم التي كانت تلهب مزاج الشاب الشرقي المحروم من الحب نكتشف ذلك في حوارات قصة نورهان:
(أن من يصاحب حامل السوء يصيبه السيء من الاعمال والنيات في غفلة عن نفسه وأحاسيسه مالكِ يا نورهان تسلكين سبيلاً لست على علم به ولا دراية ما بال الانسان بجهل متجاهلاً اسرار الحياة وأن عدو المرء شيطان خبيث أن صاحبته فتدفعك إلى الهاوية وأن عاديته خدعك في امر نفسك في عقر فخدعك إليك يانورهان ما ينفعك من الكلام الزاهد فانت حين تعبثين في احاسيس اقرانك من الفتيات اليقظات احساساً وكرامة وعليك أن لا تثق بأصدقاء أباليس وتبتعدين عنهم بقدر ما تستطيعين والا إصابتك الخيبة والندم في حياتك الضعيفة .
أيها الناس ما بالكم لا تستيقظون من غفوة طال امدها عليكم وسفح احلامكم وبدد امالكم ، أيها الناس لا تثقوا بالنساء كل الثقة ولا تظلموهن استهانة بشأنهن لان الله اوصاكم بالرأفة بهن ولا ان تسلموهن زمام اموركم ، أيها الناس اني مت وأنتن أيضاً ستموتن فريباً آجلاً أو عاجلاً وترحلون انتم أيضاً مرفوعون على الاكتاف خالية من أي شيء حتى من حفنة تراب الأرض التي تهيئ لكم الديدان والعقارب في قبوركم وانتم في ظلمات دامسة) .
اما القصة الاخرى فهي (غرور الشيطان) التي تحمل في طياتها ايضاً تلك العلاقات الاجتماعية المتميزة في المجتمع الشرقي المنتشر فيه رجال الدين والمصلحين الاجتماعيين لذا ان قصص الحب تحمل الكثير من الرومانسية والواقعية الانسانية والعلاقات بين افراد المجتمع الواحد التي تبدأ من البيت والاسرة والمحلة ثم تنطلق نحو المجتمع الاكبر المدينة وهنا يتسامى الحب على كل الفروقات الاجتماعية وتكون جميع العلاقات عبارة عن احداث تتأثر بالقضايا الحالية وتغير البيئة الاجتماعية بين مرحلة واخرى ويكون دائماً الخلاص بالعودة الى القيم الاخلاقية وخاصة بالعودة الى الدين بالتوبة عن الاخطاء التي اقترفها المذنبون في جميع قصص احمد صبحي من خلال فيض من الدموع وغزارة في الاحزان يحاول ان يزرع ابتسامة بسيطة تحمل الدفء وتملأ القلوب في التسامح من اجل خلق مستقبل يشع بالحب والاحترام لكل ما هو انسان وهكذا نعيش حياتنا خلال القصص التي كتبها احمد صبحي عن الاغنياء والفقراء والافراح والاحزان وعن الامس والماضي البعيد والماضي القريب وعن اليوم والغد لكي يحاول ان يعصر حبر قلمه لينطق ما يجول في قلبه عن الحياة التي عاشها ونعيشها نحن.
وفي قصة غرور الشيطان تنتهي بحوار :
(أيتها العاصفة هات لي من حبيبي سلاماً يخفف عني همومي ويأنسني وأنا التعيسة الوحيدة قد أضاعت عمرها في العواصف ، وقد رمتني الرعود في هياج الأمواج المجنونة تفيض في كل حين وتغرق كل من يقف فصادها من البؤساء وأن صرخاتي لا يسمعها أحد من الناس لسوء حظي .
أسمعني يا حبيبي وأنصت إلي جيداً وأن كنت حياً في المجهول فأنتبه إلى العبرات التي تغطي خدي بأدمع حارقة، وأن الرياح الآتية عبراً إلى حيث حبيبي ينتظر بفارغ الصبر حيث هناك حبنا بعيداً عن البشر سفاكي الدماء ناشري الشر والبغضاء فلا داعي لبقائي حية فأنني ابحث عن حتفي فلا تبحثوا عني فلن تجدوا لي أثراً فأنني ضائعة في عالم نبحث عن نفسها في الصحاري القاحلة والأمواج الهائجة فلا داعي لبقائي حية في هذا البلد الذي تعج بالمصائب والتقلبات ، فلا تبحثوا عني فلن تجدوني فأن وجدتموني وجدتم من كياني سراباً يتبخر كالماء في شعاع الشمس لا تبحثوا عني لقد مت وغبت عن ناظركم قبل شعوركم بوجودي هكذا هم التعساء من البشر يموتون قبل نشورهم أحياء) .
فلتحملني الرياح العاتية فوق اجنحتها وتقذفني إلى وديان النمل قبل شعوري بنفسي ليقتص النمل مني فيأكلوا لحمي قطعة قطعة فأنني أستحق أشكال القصاص لأنني خائبة الظن ونفسي أشعر بالوحشة والانفراد وظلمة الخيال ، ثم شقت قميصها وتسابقت مع الزمن إلى عمق البرية في بهيم الليل .
بدأ الناس المجتمعين يتعقبون اثر ساقي وشريهان فهم ينادونهم بأسمائهم فوجدوا ساقي معلقاً في تشابك شجرة على ضفاف الجذور، التقطوا ساقي وهو فاقد الوعي ، فأول ما نطق به ساقي أين شريهان فأجابوه : أطمئن أنها موجودة تبحث عنك هنا وهناك) .
قراءة
محمد خضر محمود
ملاحظة : ما بين الاقواس حوارات من قصص المجموعة