أفكار بين شقي الرحى
شيء عن محاسن الشعبويّة ومخاطرها
عامر حسن فياض
ان كان (نيقولا ميكيافيلي) مفكراً ايطالياً طالحاً في زماننا فانه كان مواطناً صالحاً في زمانه. فقد كان يرى ان السياسة في جوهرها لاتوجد دون وجود نسق يحكمها، ويتمثل النسق الذي يحكم السياسة بنظام الدورات التأريخية المتعاقبة لإنظمة الحكم الذي يفترض وجود نوع من الحتمية القاضية بالسقوط والصعود الدوريين المتعاقبين للنظم السياسية ومراوحتها بين النجاح والفشل ، الخير والشر ، الانحطاط والازدهار...
ولم تكن هذه الفكرة جديدة بلا شك ، حيث قال بها من قبل افلاطون وارسطو اولا ثم المؤرخ الروماني بوليب الذي استمد من هذين المفكرين فلسفته عن التاريخ ودورة الانظمة والدساتير واقتبسها ميكيافيلي منه. وتفيد هذه الفكرة ان كل نظام حكم يصعد ويرتقي في زمن قوته ونجاحه، ثم يتراجع وينحط بالضرورة في زمن ضعفه وفشله ليحل محله نظام حكم آخر.
بيد ان هذه الدورة التاريخية تتميز عند ميكيافيلي بميزتين الاولى ان هذه الدورة هي جزء طبيعي من دورة الحياة فكل ماهو بشري ينتقل بالتعاقب الى النقص ومن النقص الى الكمال، ومن الخير الى الشر ومن الشر الى الخير. والميزة الثانية ان هذه الدورة تستمر بفعل عوامل متعددة من بينها الثورة التي هي واحدة من الادوات التي تحركها وتضمن استمرارها بشرط ان تتخذ هذه الدورة التحويلية ليس الشكل الدائري بل شكل التطور اللولبي الصاعد الذي يتحول نظام الحكم بموجبه الى نظام آخر لابد ان يكون اكثر تقدماً ولكنه ليس النظام السابق دائماً.
انظمة سياسية
ومن بين الانظمة السياسية المفضلة عند ميكيافيلي ليس نظام الحكم الشعبوي، فكيف كان ينظر ميكيافيلي الى الشعب ؟
لقد كان الشعب بالنسبة لأغلب المفكرين الذين سبقوا ميكيافيلي وعاصروه كما مهملا لاقيمة له ولا دور، ولكنه اصبح عنده قوة فاعلة ذات اهمية لانه كان يرى ان اهداف الشعب انبل من اهداف النبلاء وان ثورات الشعب الحر نادراً ما تسيء لحريته، وان محبة الشعب ضمان اكيد لإستمرار الحاكم في منصبه، سواء وصل الى هذا المنصب باختيار الشعب وارادته ، او عن طريق آخر رغم ارادة الشعب.
لذلك يرى ميكيافيلي ان على الحاكم (الامير) الاعتماد على الشعب في حكمه مما يتطلب منه الحرص على صداقته ومحاولة كسب عطفه وتأييده، فالشعب هو المادة البشرية الموثوقة التي يعتمد عليها الحاكم في تشكيل الجيش الوطني الذي يحافظ على وجود الدولة واستقرارها واستمرارها.
ولكن من اللازم ملاحظة ان اهتمام ميكيافيلي بالشعب كركيزة يتصل بصفتين :-
الاولى :- ان ميكيافيلي عندما اهتم بالشعب لم يجعل نظام الحكم للشعب نظاماً مناسبا للدولة الموحدة القوية ، بل طالب اجتماعياً بنظام متوازن يسمح دستوره المعتدل للفقراء والاغنياء بمراقبة بعضهم مع بقاء كل منهم بمكانه في نظام الحكم .
وتجلى موقف ميكيافيلي الحقيقي من الشعب في غياب هذا الاخيــــــر عن اهتمامه عند معالجته لموضوع ممارسة الحكم. ولعل ذلك يرجع الى عدم ثقته بالشعب نتيجة لعدم ثقته بالناس عامة ، لانهم في رأيه مجــــــــــــبولون على العدوانية والاذى ونكران المعـــــــــــروف وسرعة التلون والشره والبخل ... الخ.
وتشير كتابات ميكيافيلي الى ان يعد الحالات التاريخية التي تتمتع فيها الجماهير برؤساء، نادرة واستثنائية، وعدا ذلك فقد كان يعتقد بان مهمة صياغة التاريخ يتولاها ،في الغالب، بعض الرجال المزودين بقوة وفضيلة خاصتين، لذلك فان الحاكم (الامير) الذي هو من هؤلاء الرجال سيكون أمام صياغة التاريخ من دون معونه لا من امبراطور ولا من البابا ولا من الشعب.
أما الصفة الثانية فان ميكيافيلي عندما اهتم بالشعب ، لم يشمل بإهتمامه الشعب كله وبالمعنى الحديث له ، لان الشعب عند ميكيافيلي يتخذ معنى خاصاً يقتصر فيه على فئات معينة من فئاته هم فئات الصناع والحرفيين والتجار الذين تسيرهم القوانين، او من نستطيع تسميتهم البورجوازية بلغة العصر، أما الفلاحون وباقي الفئات الاجتــــــــــماعية الدنيا ، فأنهم يدخلون في عداد الرعاع الذين تسيرهم اهواءهم، ولا يمكن الخلــــــــــــــط بين الشعب المسير بالقوانين وبين الرعاع.
طبقة اجتماعية
وفي ضوء ما تقدم لاتبدو الميكيافيلية فلسفة ذات مضمون ثوري كما شاء لها بعض المفكرين ان تكون ، بل هي في الحقيقة افكار خاصة بطبقة اجتماعية اصابها الوهن بعد تدهور المقومات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الذي تعيش في ظله مما جعلها طبقة عاجزة عن لعب اي دور في تاريخ مجتمعها بما في ذلك دور الحاكم. ولكن اذا كان الشعب الحقيقي (البورجوازية الايطالية) عند ميكيافيلي عاجزاً عن تولي الحكم بنفسه فهذا مادعاه لإستبعاد أية صيغة لحكم الشعب وانه ليس غائباً عنده عن دائرة العلاقات التي يفرضها الحكم ويحتاج إليها.
والخلاصة ان موقف ميكيافيلي تجاه الشعب يبدو متفاوتاً فهو سلبي عـــــــــــندما يتعلق الامر بممارسة الحـــــــــــكم من قبل الشعب ، ولكنه ايجابي عندما يتعلق الامر بمساندة الشعب للحكم وتوفير القناعة به وتعيين اهدافه الاساسية والمشاركة في تحمل اعبائه وتشكيل جيشه الوطني.