غونتر غراس .. كاتب عرّى الإستبداد
عصام البرّام
يعد غونتر غراس واحداً من أبرز الكتّاب الالمان في القرن العشرين، وقد ترك بصمة كبيرة في الأدب العالمي، ولد غونتر غراس في عام 1927 بمدينة دانتسيغ وتوفي في عام 2015، كما يعرف غراس بأعماله الروائية والشعرية والمسرحية، الى جانب كونه ناشطاً سياسياً.
نشأ غونتر غراس في فترة معقدة تأريخياً، حيث شهدت أوربا تحولات كبيرة بسبب الحرب العالمية الثانية، وفي شبابه تأثر بالنازية الالمانية وتم تجنيده في وحدات الدفاع المدني خلال الحرب، وخلال فترة مراهقته، أنظم الى الهتلرية الناشئة، وهو أمر كشف عنه في وقت لاحق من حياته وأثار جدلاً كبيراً، وبعد الحرب أُسر غراس وأرسل الى سجن حربي أمريكي، وبعد الحرب واجه صعوبات مادية ونفسية، لكنه تمكن من بدء حياة جديدة، حيث درس الفن في مدينة دوسلدورف وبرلين وعمل في مجال النحت أيضاً، ثم بدأ العمل كنحات ورسام، هذا التدريب الفني ساعده في تطوير نظرته الفنية الفريدة التي تميزت بها كتاباته لاحقاً، وفي خمسينيات القرن العشرين، بدأ بكتابة الشعر والمسرحيات، ولكنه لم يحظى بالشهرة إلا بعد نشر روايته الاولى.ولكن في عام 1959 نشر غراس روايته (طبل الصفيح) وهي العمل الذي جلب له الشهرة العالمية وأصبح من الكلاسيكيات الأدبية، فالرواية تسرد قصة البطل أوسكار ماتزيرات، الصبي الذي يقرر التوقف عن النموجسدياً في عمر الثالثة بسبب الرفض الأخلاقي للنضوج والبالغين من حوله، والرواية تعالج موضوعات مثل النازية، والحرب، والذنب الجماعي، بأسلوب سريالي ونقدي، حيث يرافق أوسكار قارع الطبل الذي يصدر صوتاً عالياً عند ضربه، ما يمنحه القوة للتمرد على الواقع من حوله، الرواية تسرد من خلال نظر أوسكار أحداثاً تأريخية مهمة، كالحرب وتداعياتها، ومن خلال هذه الشخصية الغريبة والرمزية يطرح غراس أسئلة تتعلق بمفهوم الذنب الجماعي الذي شعر به الشعب الألماني بسبب الحرب النازية، وكيف تأثرت الهوية الألمانية جراء هذا الأرث.الرواية تمزج بين الواقعية السحرية والهجاء اللاذع، حيث يستخدم غونتر غراس بطله أوسكار وطبل الصفيح كرمز للإنفصال عن العالم المتفسخ بفعل الحروب والأيديولوجيات المدمرة، فالرواية تتطرق بعمق الى فكرة (المسؤولية الجماعية) عن الأحداث التأريخية المأساوية في العالم، وهي تستخدم الفكاهة والسخرية لتقديم نقد لاذع للمجتمع الألماني خلال وبعد الحرب.
لم يكن غونتر غراس مجرد كاتب بل كان ناشطاً سياسياً، ما جعله شخصية جدلية في المانيا وخارجها، وقد كشف في سيرته الذاتية أنه خدم في قوات (وافن-إس إس) النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما أثار جدلاً كبيراً حول ماضيه وصدقه كناقد للفاشية، ومدافعاً عن اليسار ومشاركاً بنشاط في السياسة الألمانية، حيث دعم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وكان صديقاً للمستشار الألماني الأسبق (فيلي برانت) على مدار حياته.
نشاطه السياسي والأدبي
كتب غراس العديد من الروايات، القصائد، والمقالات السياسية التي تناولت موضوعات وقضايا متعددة، مثل الديمقراطية، الذاكرة التاريخية، والمسؤولية الاخلاقية، الى جانب رواياته الأخرى. لم تكن للكاتب العالمي غراس أبداعه الادبي، وإنما تعدت الى مواقفه السياسية، لقد ارتبط غراس ببلاد العرب، حيث زار بلاد اليمن وتأثر بالحضارة اليمنية، ورفض استلام وسام الاستحقاق من الرئيس عبدالله صالح، مالم يوقف من ملاحقة الكاتب اليمني الشاب (وجدي الأهدل) ، ومن مواقفه الشهيرة معارضته للحرب وغزو العراق في عام 2003، وتضامنه مع القضية الفلسطينة، كما اتهمته الصحافة الصهيونية بمعاداته للسامية والذي نشرته جريدة ديرشبيغل الألمانية، فضلا عن نشره تفاصيل بما يتعلق بالبرنامج النووي الإسرائيلي، والتي أشاراليها في إحدى نتاجاته الابداعية.
يشاد بغونتر غراس على أستخدامه للغة المعقدة ورمزية عالية، خاصة في روايته الشهيرة (طبل الصفيح) فهذه الرواية مثالاً على تعقيد الشخصيات والسرد الذي يتماشى مع تأريخ المانيا الحديث، وكذلك وسط التطورات المعاصرة التي تعصف في أوربا. كان غونتر غراس معروفاً بمواقفه السياسية القوية وانتقاداته للمجتمع الألماني وسياساته، كان في كتاباته يُظهر التناقضات الاخلاقية والاجتماعية في المجتمع الالماني، لذا فهو يعد صوتاً مهماً في النقاشات الثقافية والسياسية.
إن القاريء المتابع لرواياتاه، يجد قدرة غراس على دمج الرومانسية مع السخرية في أعماله، أضافة الى أستخدامه للفكاهة والسخرية، وسيلة للتعبير عن الانتقادات الاجتماعية والسياسية وبطريقة فريدة وجذابة. لم يكن غراس بكتاباته أن يستقر على أسلوب واحد فهو مبدع في أستخدم أشكال أدبية متنوعة، بما في ذلك الرواية، والشعر، والمسرحية، إذ تميزت أعماله بالابتكار الادبي والجرأة في التعامل مع المواضيع الصعبة والمثيرة للجدل والنقاشات الادبية.
إلا إن وبعد اعترافاته التاريخية في 2006، بأنه كان عضواً في تشكيلات (وافن ss) خلال الحرب العالمية الثانية، أثار هذا الاعتراف جدلاً واسعاً، وأدى الى إعادة تقييم بعض النقاد لأعماله ودوافعه وراء هذا الأعتراف المتاخر.
الابعاد والرؤية النفسية في كتابات غونتر غراس
فمن خلال كتاباته التي تميزت بالعمق والجرأة، تكثر في أعمال غراس موضوعات الذاكرة والهوية، حيث يستكشف الشخصيات التي تصارع لفهم أنفسها ضمن سياقات تاريخية واجتماعية معقدة، فروايته الشهيرة (طبل الصفيح) تعكس هذا النوع من الاستكشاف النفسي من خلال بطل الرواية(أوسكار ماتزيرات) الذي يقرر التوقف عن النمو جسدياً في سن الثالثة كاستجابة للرعب الذي يشهده في المجتمع.كما الشعور بالذنب والمسؤولية تتخلل اعمال غراس، خصوصاً فيما يتعلق بتأريخ المانيا النازية والحرب العالمية الثانية، حيث واجه غراس نفسه انتقادات بعد اعترافه المتأخر بآنظمامه (للوافن- ss) خلال فترة شبابه المبكرة، وهو ما عكسه في آستكشاف موضوعات الكشف والاعتراف بالذنب في أعماله.
بالاضافة الى آستخدامه السريالية والعناصر الاسطورية لإستكشاف العقل البشري وتجلياته، ففي روايته (طبل الصفيح) لا تخلو الرواية من عناصر خيالية، كتمرد الاطفال والقدرات الخارقة لأوسكار التي تسهم في خلق عالم ملحمي يتعامل مع الواقع الألماني بطريقة غير مباشرة.كما تشكل كتاباته أهتماماً واسعاً وعميقاً بالسياسة، إذ لم يفصل بين السياسة والأدب في كتاباته، معتبراً أن دور الكاتب يتضمن التعليق على الاحداث السياسية والاجتماعية، فهو يرى أن السياسة والمجتمع يؤثر كل منهما بالآخر، هذه النظرة تضفي عمقاً نفسياً على كتاباته، حيث تتعامل شخصياته مع الصراعات الاخلاقية والاجتماعية بطرق تعكس قلقه الشخصي وتفكيره المتشظي بين عالمه القديم وحياته بعد الحرب العالمية لثانية، وتجسد هذه الرؤى والأبعاد النفسية مدى التعقيد والثراء بنفس الوقت، في أعماله.ويظل غونتر غراس واحداً من الأصوات الأدبية الألمانية الفريدة التي جسدت تجارب القرن العشرين وتأثيراتها المعقدة على الفرد والمجتمع، فمن خلال أعماله، أستطاع أن يعبر عن العديد من المشاعر والافكار التي تتجاوز الزمان والمكان، مقدماً بذك إسهاماً غنياً ومتعدد الأبعاد في الأدب العالمي. غونتر غراس يظل شخصية مثيرة للجدل وموضوعًا للتحليل النقدي، وتعتبر أعماله مهمة للدراسة والبحث، ولفهم الثقافة والتأريخ الألماني في القرن العشرين.