الدولة العميقة في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل
شبكات رسمية متشابكة أم منظّمات خفية ؟
محمد علي الحيدري
يُشير مفهوم «الدولة العميقة» إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكـــــــــــــــرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد أن هذه الشبكة تمتلك تأثيرًا هائلًا يهدف إلى الحفاظ على المصالح المؤسسية والاستراتيجية للنظام القائم، حتى لو تعارض ذلك مع إرادة الشعب أو القيادة السياسية العلنية. ويرجع أصل المصطلح إلى تركيا في القرن العشرين، حيث استخدم للإشارة إلى التحالف السري بين الجيش، والقضاء، والبيروقراطية في مواجهة قوى سياسية تهدد الوضع القائم ومع ذلك، فقد توسّع استخدامه ليشمل دولًا عديدة حيث يُزعم وجود مجموعات غير مرئية تمارس نفوذًا كبيرًا على الحكم والسياسات العامة.
في الولايات المتحدة، اكتسب مفهوم الدولة العميقة زخمًا خاصًا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع صعود الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اتهم جهات داخلية، مثل وكالات الاستخبارات (CIA وFBI)، والبنتاغون، والمؤسسات الإعلامية، بمحاولة تقويض إدارته. وقد وصف ترامب هذه الجهات بأنها «دولة عميقة» تعمل ضد الإرادة الشعبية المتمثلة في انتخابه. وبهذا الخصوص يشير العديد من المحللين إلى أن النخب الاقتصادية الكبرى والشركات متعددة الجنسيات تشكل جزءًا من هذه الدولة العميقة. فعلى سبيل المثال، يقول الباحث السياسي مايكل ليند إن «التشابك بين المال والنفوذ السياسي في الولايات المتحدة يُظهر بوضوح أن السياسة لا تُدار فقط في أروقة الكونغرس، بل في مكاتب البنوك الكبـــــــرى مثل غولدمان ساكس، وغرف الاجتماعات في وول ستريت» (Lind, The New American State).
دولة عميقة
من ناحية أخرى، يعتقد آخرون أن الدولة العميقة لا تعدو كونها بيروقراطية قوية ومستقرة تهدف إلى ضمان استمرارية المؤسسات، بغض النظر عن التقلبات السياسية. وهنا يقول المؤرخ الأمريكي فرانسيس فوكوياما إن «ما يسمى بالدولة العميقة ليس إلا تعبيرًا عن استمرارية المؤسسات الديمقراطية التي تضمن التوازن بين السلطات» (Foreign Affairs, 2020).
وفي أوروبا، يبرز مفهوم الدولة العميقة بشكل أقل وضوحًا مقارنة بالولايات المتحدة، ولكنه يظهر في صراعات القوى داخل الاتحاد الأوروبي وبين الدول الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا. وبهذا الصدد يقول المفكر الفرنسي إيمانويل تود إن «النخب الاقتصادية والبنوك الأوروبية الكبرى، مثل البنك المركزي الأوروبي، تُعتبر أحد أبرز مظاهر الدولة العميقة، حيث تعمل على فرض سياسات تقشفية تخدم مصالح الأسواق على حساب الشعوب» (Le Monde Diplomatique, 2019).
إضافةً إلى ذلك، يتم الحديث عن وجود تحالفات سرية داخل الحكومات لتعزيز مصالح صناعات معينة، مثل الصناعات الدفاعية، حيث تلعب شركات كبرى مثل إيرباص وثاليس دورًا مركزيًا في توجيه السياسات الخارجية للدول الأوروبية.
على المستوى الاستخباراتي، يُشار أحيانًا إلى التنسيق السري بين وكالات مثل MI6 البريطانية، وDGSE الفرنسية، وBND الألمانية كجزء من آليات الدولة العميقة التي تعمل لضمان استقرار النظم القائمة.
في إسرائيل، يرتبط مفهوم الدولة العميقة بشكل وثيق بالمؤسسة الأمنية والعسكرية. ويرى العديد من المحللين أن الجيش الإسرائيلي، وجهاز المخابرات (الموساد)، بالإضافة إلى نخبة من رجال الأعمال المقربين من الحكومة، يلعبون دورًا كبيرًا في توجيه السياسات، سواء الداخلية أو الخارجية.
استقلالية واضحة
وهنا يقول الباحث الإسرائيلي يوسي ميلمان إن «المؤسسة الأمنية في إسرائيل تُعتبر العمود الفقري للدولة العميقة، حيث تمتلك تأثيرًا يتجاوز نطاق السيطرة الحكومية التقليدية» (Haaretz, 2022). كما يتجلى هذا في القرارات المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين أو السياسة تجاه إيران، حيث تظهر استقلالية واضحة لهذه الأجهزة عن الحكومة المنتخبة.
وبموازاة هذه الآراء تبرز أيضا نظرية «الأطراف الخفية» التي تشير إلى وجود جهات دولية أو مؤسسات «فوق وطنية» تؤدي دورًا مشابهًا للدولة العميقة، لكن على مستوى عالمي. فعلى سبيل المثال، يرى البعض أن منظمات مثل مجموعة بيلدربيرغ ومنتدى دافوس تمثل تجمعات للنخب السياسية والاقتصادية التي تصوغ اتجاهات السياسة العالمية.
وفي كتابه الشهير الدولة العميقة العالمية The Global Deep State، يشير الكاتب بيتر ديل سكوت إلى أن «الدولة العميقة لم تعد ظاهرة محلية فقط، بل باتت شبكة عابرة للحدود تعمل على تشكيل النظام العالمي بما يخدم مصالحها».
اذن، يبقى مفهوم الدولة العميقة مثار جدل واسع بين من يراه حقيقة قائمة ومن يراه مجرد نظرية مؤامرة تستخدم لتفسير تعقيدات السلطة. وفي الولايات المتحدة، وأوروبا، وإسرائيل، تتجلى بعض مظاهر هذا المفهوم في هيمنة المؤسسات الأمنية، والبيروقراطية، والنخب الاقتصادية على القرار السياسي. وبينما يسعى البعض إلى كشف تأثير هذه الأطراف، يرى آخرون أن قوتها هي التي تضمن استقرار الدول، في ظل عالم مليء بالتحديات والاضطرابات.
وفي النهاية، يبقى التساؤل مفتوحًا حول ما إذا كانت الدولة العميقة ضرورة للحفاظ على النظام، أم عقبة أمام تحقيق الإرادة الشعبية.