هل العتب للقلوب صابونة ؟
علي الجنابي
قد أشهَبَتْ شِعابَ نَفسي بواحِدةٍ مكنونَة، فالتهبَ مَعها لتِّبغُ في الغليونَ. ثمَّ مدَّ اللَّهبُ لسانَهُ فألهبَ حتَّى جُذورَها المَدفونَة. ولئنِ التَهَبَتِ الشِّعابٌ فلا تسألَنَّ النَّفسَ؛ لمَ وعَلامَ ذا اللَّهيبُ يا مَجنُونة. كلّا ولن تَظنَّ النَّفسُ بشِعابِها سوءَ الظُّنوناْ، بل لها أن تَتَفحَّصَ الشِّعابَ بلمَسَاتِ مُرضعٍ محدودَبٍ ظهرها على وليدِها لتَصونَه.
وأمَّا الواحدَةُ التي أشعَلَتِ التِّبغَ في الغَليون، فهيَ خطبةُ جُمُعةٍ رأيتُ الخطيبَ يَقرأها من وريقةٍ كملفوفةِ»قرنبيطَ»بين أكفِّهِ مَسجونة. وكم تَمنيتُ كلمَّا رأيتُ خُطباً في منابر أمةِ توحيدٍ بحُرمة الحَرمينِ الشَّريفينِ مَقرونة، وكذلكَ خُطباً من أدباءَ في أرجائها بقبعاتٍ افرنجيَّةٍ يتفتَّلون ويتجوَّلونِ. أقولُ كم تمنيتُ رؤيةَ خطيبٍ مُفوَّهٍ ببلاغةٍ سَهلةٍ رَصينة، وفصَاحةٍ صَهلةٍ حَصينةٍ ومزيونة، وكم وَدِدتُ ألا يقرأَ من الوُريقاتِ عباراتٍ مُجتَرَّةٍ دوَّارةٍ مَطحُونة، ومَثَلُه في ذلكَ كمَثلِ بَبَغاوتٍ بالذي سمعوا يُردِّدونَ.
امة العرب
ألا ليتَ أولاءِ الخُطَّاب كتَبوا ثمَّ حَفِظوا ما كَتبوا من مَتنٍ عددُ سُطورِهِ عشرونَ أو ثلاثونَ، ثم على مَسامعِنا ارتجالاً وبتَفاعلٍ في الوجهِ لمَا كَتَبوا بنا يَعصفونَ، كي يَحفَظوا للمنابَرِ هيبَتَها التي لم تَعدْ فيها محفوظةً ولا مَسكونة، ولكيلا يكونوا كمَثلِ تلامِذةٍ بنشيد الصَّباح حَناجرُهم مَحقونة، وذلكَ هو أضعفُ الإيمان في أمَّةٍ قد جَفَّ جُبُّها من فُنونِ البنانِ ومتُونِه، وخَفَّ لُبُّها من عُيونِ البيانِ وجُفونِهِ. فنحنُ قد سَئمنا خُطباءَ وكتَّاباً وأدباءَ بحشوِ اللغوِ يُثرثرون، ومِن وريقةٍ «مُقرنطَةٍ» للغوهم يَقرأونَ. وقد أمستِ جفونُ عيونِنا لا تشتَهي النَّوم إلّا بينَ يدي خَطيبِ قرنابيطٍ حُروفُهُ بئيسةٌ مَضنُونَة. وعجبي!
أحقَّاً عَجزَت منابرُ أمةِ العربِ بعلمائِها من أولي الذُّقون، وبأدبائِها من ذوي قبعاتٍ مُزخرفاتٍ بنقشةِ السَّوربونَ، وبِجامِعاتٍ لغويةٍ مُتَكدِّسةٍ فيها وبمنحِ الشَّهاداتِ مأذونة، أعجزَت أن تلدَ خطيباً مُفَوَّهاً بمعاني البيانِ ولمَبانيهِ أن يَصُون. أما إننا نحنُ العوامُ الرابضون، لن نعتَرِضَ على الخطِيبِ والأديبِ أن تكونَ بمُداهنةِ الزَّعيمِ حروفُهُ مَدهونة. وإنَّما نحنُ نستاءُ من خطباءَ وأدباءَ مِن وريقةٍ «مُقرنطَةٍ» علينا بها خطبهم يَقرأونَ.
ثمَّ إنِّيَ أرانيَ هيماناً أتصفَّحُ في «غوغلَ»حروفَ امرَئِ القيس المُقَدَّرةِ المَوزونة، وصروفَ ثابتِ بن قيس وكلماتهِ المَيمُونة، وثَمَّةَ تعابيرُ سليلِهمُ الرَّشيدِ الأشمِّ هارونَ، فأهيمُ بترفِ الأمسِ، وبما انفلقَ بهِ الرأس، فانطلقَ منَ الكأس، فَنطقَ بهِ الأعشى قيسُ بقصيدٍ شَخصَت معهُ الأبصارُ وأذهلَ العيونَ:
وَقَدْ أقُودُ الصّبَى يَوْماً فيَتْبَعُني * وقدْ يصاحبني ذو الشَّرةِ الغزلُ
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي * شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ.
وبينَما أنا هيمانُ بِسكرةِ «شُلْشُلٍ شَوِل» وقد أيبَسَتِ مني الجُفونَ، إذ لمحتُ في «التِّلفازِ» أديباً معاصراً قَدِ انفلقَ فانطلقَ فنطقَ في ندوةٍ مرهونة، بتعابيرَ : [التناص الإمتصاصي والإنزياحٍ الإنزياحي]، وإذ كانَ يدعو الى [عدم اعتماد انزياح الانزياح وتغليبه على الانزياح نفسه]، وإذ هو يرصدُ [قصيدةِ الهايكو وتحولاتها في الأدب العربي] الونيسٍ في متونِه، ذاك أنَّ الإبستمولوجيا لا تسبر سبلَ سيكولوجيةِ سعفَ الأنثروبولوجيا وعرجونه.
عجبٌ على عجبٍ ومثليَ معجبٌ بظنونِه!
أَيْنَ بِالأمْسِ كُنَّا، وَاليَوْمَ كَيْفَ بِنَّا، وغداً كيفَ الهونُ سوفَ يَبونَ. وعجبٌ مِن أمَّةٍ هجرَت بواديها، وبانَت نواديها كسيفةً أعجَميةً سخيفةً غيرَ مُحصنةٍ ولا مصونة، ورؤوسُها في جَهلِها كنعاماتٍ في ترابِ الغابِ مَدفونة. أمَّةٌ لَاهِيَةٌ قُلُوبُ الحُكماء فيها، تارةً بتغزّلٍ في»ماسنجرَ الآيفونَ»، وتارةً بقولِ «سارتر» يَتداولونَ، وثالثةً بقيلِ»سبينوزا» الحنونَ يتَنَطَّعونَ. وأمَّا عوامُ النَّاسِ فتراهمُ بابتهاجٍ يتسامرونَ: قلْ لي يا صاحبَاً قد أُوتيَ علمُ الموائدَ والصُّحونَ؛ أشَطيرةُ «الهامبرغرَ بالكتشبِ»مَدهونة، أشهى أم «شاورمةَ» دجاجٍ «بالمايونيزَ» مَعجونة؟ فيردُّ عليهِ صاحِبُهُ صَنَّاجةُ العَربِ في علومِ رَنَّاتِ الصُّحونِ، ردَّاً ذا شُجونٍ وشُموخٍ خرجَ صداهُ من قبَّةِ «كبةِ السراي الشهيرةِ» المَطحونة، ووَصلَ الصَّدى حتى مدارَ الكوكبِ نبتونَ: بلِ الشَّاورمةُ يا صاحُ على أن تكونَ «بالسِّفنَ آبٍ» مقرونة، ثمَّ ردفَ الشَّاورمةَ كوبٌ ساخنٌ من شايِّ «لبتونَ»، ولا بأسَ بعدَ ذلكَ في أبريقَ من الليمون.
إفٍّ لهم، ولِمَا اشتَهت أنفسُهم، ولمَا يَشتهونَ، ولمَا سوفَ يشتهونَ! أفٍّ، ولا عجبَ ألّا ينبَعثَ منهم امرؤ القيس ولا الأعشى قيس ولا ثابتُ بن قيس بفصاحةٍ مَزيونة. فهولاءِ لا يَفقهونَ أنَّ آيةَ {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) بها الكافرونَ وحَسْب مَوصوفونَ.
أفٍّ لما ضَيَّعوا من لسانِ ذكرٍ عنهُ سوفَ يُسألون. ولَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. وهيــــــــــهاتَ هيـــــــــــهاتَ أن يمنَّ عليهمُ الزمانُ بالأعشى، ومحالٌ بمثلِهِ أن يستَديرَ فيكونَ.
قمم موزونة
لا رَيْبَ أنَّ مِرآةَ كلِّ أمّةٍ بَيانُها، فإنْ كَانَ بَيانُهَا فحلاً تَراهَا تَحْظَى بِصَهلةٍ بَينَ القِمَم موزونة، وَإنْ كانَ تِبيانُها ضحلاً، تَراهَا تَرضَى بِوَحلةٍ بَينَ الأمَم مدفونة. وإنَّهُ لخَطْبٌ جَللٌ سقطَ القومُ فيهِ وهمُ لا يَشعُرونَ. خَطْبُ خُطَبٍ يأنَفُ مَجاجَتَها وسذاجتَها صِوانُ فتىً لَبون. فهلّا تعودُ منابرُ الأخلافِ لتَحظى بنَهلٍ من صَهلةِ الأسلافِ مَخزونة، أم باتَ الأمرُ هو:
«نَحَنُ بِمَا عندَنا وأنتَ بما * عنَدكَ رَاضٍ والرأيُ مُختلفُ» يا أبا نونة. وأنا الممنونْ لابو نونهْ، وابو نونهْ حلوهْ عيونهْ. وإنَّما لكلٍّ جيلٍ من الفَريقينِ آدابُهُ وفنونُهُ.
تلكَ كانتْ هي الواحِدةُ التي أشهَبت شِعابَ النَّفسِ وآهاتِها المَكنونة، وقد حَرَّرتُ بها قولَاً غليظاً على عَجَل، في وَمضَةِ ذَرفٍ جَلَل، مِن لمضَةِ ظَرفٍ وَجلٍ ومَحزونة. ولا يعرفُ القَولُ الغليظُ إن خُطَّ في عَجلٍ وأطَّ في كَللِ كلمَاتٍ لا عِتابَ فيها تحتَ ظلالِ الزَّيزفونَ.
كاذبٌ مَنْ أشاعَ أنَّ «العَتَبَ للقُلوبِ صَابونة».