السماوة..أيام زمان
صباح المندلاوي
لا ادري لماذا حينما ترفرف حروف السماوة هنا او هناك او تتراقص امام ناظري او تتناهى الى مسامعي، تتقافز الى الذاكرة اكداس من اللقطات والصور والذكريات الجميلة، منها اهازيج الثوار قبل وما بعد ثورة العشرين، هوسات العشائر وهي تطالب بطرد المستعمرين، هبات المظلومين ضد الاقطاع والحكومات اليمينية المتعاقبة، انتفاضات الفلاحين وهي تؤسس وتتطلع لغد أفضل؟
قطار الموت القادم من بغداد في اعقاب مجزرة الثامن من شباط 1963، وكيف هب اهالي السماوة لتقديم الماء والملح لضحايا هذا القطار واسعاف من بقى على قيد الحياة من الاخيار.
بادية السماوة والطريق المؤدي
الى سجن نكرة السلمان
تعود بي الذاكرة الى قبل ستة عقود يوم كنت طالبا في متوسطة السماوة للبنين في النصف الاول من ستينيات القرن الماضي ويوم كان مديرها الاستاذ الجليل والمربي الفاضل الراحل عبد الجليل حسن، ونخبة من الاساتذة اذكر منهم :
مدرس الرياضيات حسين الغرة
مدرس الاحياء الراحل عبد جابر
مدرس الفيزياء الراحل مهدي السماوي مدرس اللغة العربية شمخي جبر كانت المتوسطة في محلة القشلة على مقربة من نادي الموظفين في السماوة ودار القائممقام عباس عليوي.
في شارع القشلة كانت توجد ايضا مدرسة للاطفال، قبالتها عيادة الدكتور باقر المشاط وبجوارها دار الطالب رياض الامامي.
ثمة زقاق يضم الكثير من المعلمات في المحلة، بيوت عدة تنتشر في هذه البقعة منها دار الزميل داود الشهرستاني ودار آخر يعود لعائلة الزميل ابراهيم عزوز ودار للطالب الرياضي ابراهيم الظاهر.
يرتبط شارع القشلة بالشارع الرئيسي القادم من جسر السوير -البربوتي- حيث اولى الدكاكين دكان “وزير” في المساءات كنت اتأمل نهر الفرات وهو ينساب بهدوئه المتميز وقرص الشمس قد مالت الى الغروب، مما يزيد النهر سحراً وجمالاً.
وكم من المرات تجد قاربا يتهادى وسط النهر ويرسم لوحة ما اجملها، ناهيك عن منظر “الكرافه” وهم يتسابقون لصيد الاسماك في الجهة المقابلة للقشلة -الكورنيش- كازينوهات عديدة تبث ما يحلو لها من الاغاني الشائعة، وما أكثر ما كنا سرح مع اغنية ام كلثوم الاخيرة -أنت عمري- التي شكلت نقلة نوعية في ميدان الغناء، وفي عام 1964 وهي من الحان الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد انتظار طويل، ظهرت واستأثرت بحب واعجاب المستمعين والعشاق في كل مكان.
ومازلت حتى يومنا هذا، ما ان اسمع هذه الاغنية حتى تعود بي الذاكرة الى كونيش السماوة.
وفي الكونيش ذاك ينتصب سوق السماوة -الجينكو- المشهور والذي يضم صفين متقابلين من المحلات والدكاكين لباعة الملابس والاقمشة والمواد المنزلية والعطارية.
في مدخل السوق مكتبة لبيع الصحف وعلى مقربة من مدخل السوق بيت الصديق الفنان جمال السماوي -عازف القانون- وخريج معهد الفنون الجميلة، حيث يطل البيت على ضفاف الفرات مباشرة.
على مسافة قصيرة من هذا البيت ثانوية السماوة للبنات ويومها كانت المديرة شميران لازار، واذكر ان والدها كان لديه محل لبيع المشروبات الكحولية في المدينة.
في متوسطة السماوة وعلى مقاعد الدراسة اتعرف على الزميل الطالب يحيى السماوي الذي يقرض الشعر وينشر اشعاره هنا وهناك، وفي احيان ينقشها وبخطه الجميل على اعمدة جسر السماوة ليلا وقد انتشر الطلاب تحت مصابيحها الضوئية طلبا للقراءة ومراجعة المعلومات والمعارف كلما اقتربت الامتحانات النهائية.
ومازلت اذكر ان بعضا من اشعار الصديق يحيى كانت تتفنن في ايصال رسائل الحب والجمال والغزل والعتاب الى “نجلاء” ترى من تكن “نجلاء” ايام زمان؟ هل كان الشاعر يعيش قصة حب واقعية ؟ أم ان الامر مجرد من وحي الخيال ؟
وتمر الايام والاعوام، وتتوطد الصداقة والمودة بيننا، واذ يخص الجواهري الكبير رباعية لكريمة ولي وبمناسبة الذكرى السنوية لزواجنا في عام 1996 والتي يرد فيها:
ان خيالا حرة
من خير ام واب
سبحان من صورها
امرأة من ذهب
وبعلها صباحها
يا شمسه لا تغب
تعم قران كوكب
محصن بكوكب
واذ يطلع صديقنا السماوي على هذه الرباعية، حتى يبادر ويشرع بكتابة قصيدة تتجاوز ابياتها العشرة، تجاري هذه الرباعية ومطلعها:
فتى سليل النجب
احب ابهى كوكب
المؤسف بحثت عن هذه القصيدة بين اوراقي ولم أعثر عليها.
واذ نتبادل المكالمات الهاتفية انا، من مكان اقامتي في دمشق في النصف الاول من تسعينات القرن الماضي، وهو في السعودية حيث يعمل محررا في اذاعة المعارضة العراقية هناك، ينقل لي كيف بلغه نبأ استشهادي في معركة بشت اشان عام 1983 وكيف لفه حزن عميق وشغله هاجس بكتابة قصيدة رثاء.
وكم كانت فرحته كبيرة وبما يفوق التصور حينما بدا له الخبر كاذبا وعاريا عن الصحة. واذ وجهت دعوة للجواهري الكبير لحضور مهرجان الجنادرية الثقافي، وكنا برفقته انا وزوجتي د.خيال، زارنا الشاعر السماوي محتفياً بالجواهري ودعانا لتناول الغذاء في منزله والاستماع الى اشعاره.
وكانت فرصة طيبة في ان نلتقي مجددا وليبدي الجواهري استحسانه بما سمع من اشعاره وهي تنزف ألماً وغربة وتعزف على اوتار حساسة تستمد نبضها والتماعاتها من الواقع المؤلم والمفجع عراق الضحية والجلاد.
بناء حديث
واخيرا والحديث يطول ويتشعب عن السماوة فيما مضى، مازلت احتفظ بذاكرتي بصورة فوتوغرافية متميزة تأخذ مكانها اللافت في محل للتصوير في السماوة، كان صاحبه والد صديقي الفنان المسرحي باسم العزاوي.
جسر السماوة كبناء حديث ومعاصر ثمة نخلة سامقة تشرئب بعنقها الى الاعالي ومن خلف الجسر..يا لها من صورة نادرة وفريدة وبلمسات فنية جمالية عالية.
والاجمل من ذلك حينما ترى في الليالي بضعة شموع مضاءة وقد ثبتت على خشبة تطفو وسط الفرات، لتعلن عن نذور وبشائر لنسوة نال منهن التعب والحزن والأسى، فاطلقن هذه الشموع لتتهادى على ضفاف النهر وتحمل في ثناياها من الرسائل والدلالات الكثير .. طقوس ما اجملها، ربما توارت عن الانظار الان.. وربما ما زالت.