كنت أظن في زمنٍ مضى أن من يقرأ الكتب ويتصفح المجلات، لا بد أن يتطلع لأن يكون مؤلفاً، ولم أكن أصدق أن هناك من يقرأ لأجل المتعة أو الاستزادة أو الفائدة، وقد ترسخت في ذهني هذه الفكرة، لأن جميع من كانوا يشاطرونني هذا الهوى تحولوا إلى شعراء أو كتّاب قصة أو مدوني تاريخ، ولم تتح الفرصة لكثيرين منهم، بسبب الظروف ومرارة العيش، أن يواصلوا المسيرة، فتوقفوا عند منتصف الطريق.
ذات مرة قرأت أن الشاه عباس الصفوي زار الشيخ محمد بن حسين البهائي العاملي في بيته، يوم كان الملوك يطرقون أبواب العلماء، فدهش عند رؤيته مئات الكتب تتزاحم حوله وبين يديه، وسأله: “هل يوجد من بين العلماء من استطاع أن يحفظ ما تحويه هذه الكتب من علوم؟” فأجاب البهائي على الفور: “لا! وإن يكن هناك واحد منهم، فهو الميرزا إبراهيم الهمداني!”
ولأن من يحوز هذا الشرف ليس شخصاً عادياً، فقد طفقت أبحث عن الميرزا إبراهيم هذا، فلم أجد له سوى القليل من الذكر، حتى أن صاحب “روضات الجنات”، وهو كتاب هائل الحجم، لم يفرد له سوى صفحة ونصف لا غير.
عرفت منها أنه توفي عام 1026 هـ (1617م) وكان صديقاً مقرباً من البهائي ذاته، الذي توفي بعده بأربعة أعوام، ولم أجد له من المصنفات التي ذكرها كتاب السير سوى بعض الحواشي والتعليقات التي لا يعرفها إلا القليلون.
وما يهمنا في هذه المقدمة هو ما ذكره البهائي من قدرة هذا الرجل على حفظ واستيعاب ما تمتلئ به كتب تلك الأيام من معارف وعلوم، وهي مهمة عسيرة، إن لم تكن مستحيلة، ويكفي أن الشيخ البهائي، الذي طار ذكره بين البلدان بسبب تصانيفه الكثيرة حتى عدد له بعضهم أكثر من ستين كتاباً، شهد له بالتبحر في العلم، وقوة الذاكرة، وسعة الفهم.
ولست أظن أن البهائي قصد بهذا الحفظ المجرد أو الذاكرة المتوقدة، بقدر ما أشار إلى ما امتلكه الرجل من حضور طاغٍ، وتأثير واسع، وجاذبية كبيرة في مجتمعه وبيئته، فكان طلبته يحفون به، ويتلقفون من علمه، ويروون عنه، أي أنه كان من نجوم عصره ونوادر زمانه، حتى لو لم يترك إلا القليل من المؤلفات.
ويبدو أنه كان في شغل عنها، رغم ما أثر عنه من “مهارة في العلوم الحكمية والأدبية والشعر”. فهناك بالنسبة إليه ما هو أهم منها، من واجبات.
إن مثل هذا الأمر هو الذي يدفع المرء للتساؤل عن جدوى الاستغراق في المطالعة، هل الغرض منه أن يتحول الناس إلى شعراء وكتّاب ومؤرخين وباحثين؟ وإذا لم يكونوا راغبين في ذلك، فلماذا يبذلون المال ويجهدون البصر فيما لا لزوم له ولا حاجة؟.
والحقيقة أن مثل هذا التفكير لا يجب أن يخطر على بال أحد، فالمجتمع بأسره مطالب بأن يكون قارئاً، وأن يدرك أن معرفة الحقيقة وامتلاك الوعي والحصول على ذخيرة علمية تتحقق جميعها عن طريق إنعام النظر في ما دونه الآخرون. وهناك فرق بين مجتمع قارئ وآخر غير قارئ، فالأمية لا تعني الجهل بالقراءة والكتابة، بل الخواء الفكري الذي يجعل الفرد عاجزاً عن مسايرة العصر، واكتساب المعارف، والإلمام بالمهارات العقلية، وإذا لم يتحقق له ذلك، فسيكون عاجزاً عن إدراك المطالب الحقيقية للمجتمع، والمصالح الأساسية للبلاد، وليس ثمة سبيل للوعي أفضل من الاطلاع على تجارب الغير، ومعرفة الوسائل الناجعة للتقدم، والخلاص من الأمراض التي تعيق حركة التاريخ، وتكرس حال التخلف.