الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تشكيل‭ ‬الوعي

بواسطة azzaman

تشكيل‭ ‬الوعي

محمد زكي ابراهيم

 

‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬مضى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬الكتب‭ ‬ويتصفح‭ ‬المجلات،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يتطلع‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬مؤلفاً،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أصدق‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬لأجل‭ ‬المتعة‭ ‬أو‭ ‬الاستزادة‭ ‬أو‭ ‬الفائدة،‭ ‬وقد‭ ‬ترسخت‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬لأن‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يشاطرونني‭ ‬هذا‭ ‬الهوى‭ ‬تحولوا‭ ‬إلى‭ ‬شعراء‭ ‬أو‭ ‬كتّاب‭ ‬قصة‭ ‬أو‭ ‬مدوني‭ ‬تاريخ،‭ ‬ولم‭ ‬تتح‭ ‬الفرصة‭ ‬لكثيرين‭ ‬منهم،‭ ‬بسبب‭ ‬الظروف‭ ‬ومرارة‭ ‬العيش،‭ ‬أن‭ ‬يواصلوا‭ ‬المسيرة،‭ ‬فتوقفوا‭ ‬عند‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭.‬

‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬قرأت‭ ‬أن‭ ‬الشاه‭ ‬عباس‭ ‬الصفوي‭ ‬زار‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬حسين‭ ‬البهائي‭ ‬العاملي‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬الملوك‭ ‬يطرقون‭ ‬أبواب‭ ‬العلماء،‭ ‬فدهش‭ ‬عند‭ ‬رؤيته‭ ‬مئات‭ ‬الكتب‭ ‬تتزاحم‭ ‬حوله‭ ‬وبين‭ ‬يديه،‭ ‬وسأله‭: “‬هل‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬العلماء‭ ‬من‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يحفظ‭ ‬ما‭ ‬تحويه‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬علوم؟‭” ‬فأجاب‭ ‬البهائي‭ ‬على‭ ‬الفور‭: “‬لا‭! ‬وإن‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬واحد‭ ‬منهم،‭ ‬فهو‭ ‬الميرزا‭ ‬إبراهيم‭ ‬الهمداني‭!”‬

‭ ‬ولأن‭ ‬من‭ ‬يحوز‭ ‬هذا‭ ‬الشرف‭ ‬ليس‭ ‬شخصاً‭ ‬عادياً،‭ ‬فقد‭ ‬طفقت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الميرزا‭ ‬إبراهيم‭ ‬هذا،‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الذكر،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ “‬روضات‭ ‬الجنات‭”‬،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬هائل‭ ‬الحجم،‭ ‬لم‭ ‬يفرد‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬صفحة‭ ‬ونصف‭ ‬لا‭ ‬غير‭.‬

عرفت‭ ‬منها‭ ‬أنه‭ ‬توفي‭ ‬عام‭ ‬1026‭ ‬هـ‭ (‬1617م‭) ‬وكان‭ ‬صديقاً‭ ‬مقرباً‭ ‬من‭ ‬البهائي‭ ‬ذاته،‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬بعده‭ ‬بأربعة‭ ‬أعوام،‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬المصنفات‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬كتاب‭ ‬السير‭ ‬سوى‭ ‬بعض‭ ‬الحواشي‭ ‬والتعليقات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬إلا‭ ‬القليلون‭.‬

‭ ‬وما‭ ‬يهمنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقدمة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬البهائي‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬حفظ‭ ‬واستيعاب‭ ‬ما‭ ‬تمتلئ‭ ‬به‭ ‬كتب‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬وعلوم،‭ ‬وهي‭ ‬مهمة‭ ‬عسيرة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مستحيلة،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬البهائي،‭ ‬الذي‭ ‬طار‭ ‬ذكره‭ ‬بين‭ ‬البلدان‭ ‬بسبب‭ ‬تصانيفه‭ ‬الكثيرة‭ ‬حتى‭ ‬عدد‭ ‬له‭ ‬بعضهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬كتاباً،‭ ‬شهد‭ ‬له‭ ‬بالتبحر‭ ‬في‭ ‬العلم،‭ ‬وقوة‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وسعة‭ ‬الفهم‭.‬

‭ ‬ولست‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬البهائي‭ ‬قصد‭ ‬بهذا‭ ‬الحفظ‭ ‬المجرد‭ ‬أو‭ ‬الذاكرة‭ ‬المتوقدة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬امتلكه‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬طاغٍ،‭ ‬وتأثير‭ ‬واسع،‭ ‬وجاذبية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مجتمعه‭ ‬وبيئته،‭ ‬فكان‭ ‬طلبته‭ ‬يحفون‭ ‬به،‭ ‬ويتلقفون‭ ‬من‭ ‬علمه،‭ ‬ويروون‭ ‬عنه،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نجوم‭ ‬عصره‭ ‬ونوادر‭ ‬زمانه،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭.‬

‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬شغل‭ ‬عنها،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬أثر‭ ‬عنه‭ ‬من‭ “‬مهارة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الحكمية‭ ‬والأدبية‭ ‬والشعر‭”. ‬فهناك‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬منها،‭ ‬من‭ ‬واجبات‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يدفع‭ ‬المرء‭ ‬للتساؤل‭ ‬عن‭ ‬جدوى‭ ‬الاستغراق‭ ‬في‭ ‬المطالعة،‭ ‬هل‭ ‬الغرض‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬شعراء‭ ‬وكتّاب‭ ‬ومؤرخين‭ ‬وباحثين؟‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬راغبين‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فلماذا‭ ‬يبذلون‭ ‬المال‭ ‬ويجهدون‭ ‬البصر‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬لزوم‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬حاجة؟‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التفكير‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬أحد،‭ ‬فالمجتمع‭ ‬بأسره‭ ‬مطالب‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬قارئاً،‭ ‬وأن‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬معرفة‭ ‬الحقيقة‭ ‬وامتلاك‭ ‬الوعي‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬ذخيرة‭ ‬علمية‭ ‬تتحقق‭ ‬جميعها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إنعام‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬دونه‭ ‬الآخرون‭. ‬وهناك‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬مجتمع‭ ‬قارئ‭ ‬وآخر‭ ‬غير‭ ‬قارئ،‭ ‬فالأمية‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬الجهل‭ ‬بالقراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬بل‭ ‬الخواء‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الفرد‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬مسايرة‭ ‬العصر،‭ ‬واكتساب‭ ‬المعارف،‭ ‬والإلمام‭ ‬بالمهارات‭ ‬العقلية،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬له‭ ‬ذلك،‭ ‬فسيكون‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬المطالب‭ ‬الحقيقية‭ ‬للمجتمع،‭ ‬والمصالح‭ ‬الأساسية‭ ‬للبلاد،‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬سبيل‭ ‬للوعي‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬تجارب‭ ‬الغير،‭ ‬ومعرفة‭ ‬الوسائل‭ ‬الناجعة‭ ‬للتقدم،‭ ‬والخلاص‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬تعيق‭ ‬حركة‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتكرس‭ ‬حال‭ ‬التخلف‭.‬


مشاهدات 79
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/11/09 - 12:09 AM
آخر تحديث 2024/11/13 - 9:04 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 183 الشهر 5399 الكلي 10048543
الوقت الآن
الأربعاء 2024/11/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير