حسن النواب
في منتصف شهر شباط من عام 2020 وصلت إلى مطار النجف الأشرف قادماً من مدينة بيرث الأسترالية؛ كنتُ قبلها بشهرين قد تعرَّضتُ إلى انفلونزا حادَّة لم أشهد مثلها طيلة عمري؛ أقعدتني الفراش لمدة شهر حتى برأتُ منها بصعوبة برغم أنَّ الموسم كان هو الصيف؛ فالمناخ في أستراليا عكس مدن العالم؛ فإن كان في العراق صيفاً مثلاً فلدينا يكون شتاءً؛ بالوقت الذي وصلت الأنباء عن انتشار مرض غامض في مدينة يوهان الصينية؛ ثم صرَّحت منظمة الصحة العالمية في أوائل عام 2020 أنَّ انتشار فايروس كورونا يمثل طارئة صحية عمومية مثيرة للقلق الدولي؛ سرعان ما أعلنتهُ جائحة خطيرة جداً على الكائن البشري؛ ومع ذلك حزمتُ حقائبي وسافرت إلى العراق؛ كانت الإجراءات في مطار النجف روتينية خضعتُ خلالها لفحص سريع يؤكد عدم إصابتي بالإنفلونزا؛ لكنَّ الوضع تطوّر بشكل مخيف بعد أيام؛ إذْ ازداد عدد ضحايا المرض بشكل مروِّع في أصقاع العالم؛ وأغلقتْ الأسواق وشلَّت حركة الناس وتوقفت حركة الطائرات في جميع المطارات؛ بالوقت الذي حان موعد عودتي إلى منزلي في أستراليا بعد أربعة أسابيع، لكن هيهات فالوصول إلى قارة الكناغر أصبح مستحيلاً؛ اتصلتُ في حينها بموظف مسؤول على معاشي الشهري هناك في أستراليا وشرحت له الظروف القاهرة التي تحيط بي وقد تفهَّم محنتي بلا اعتراض ولم يقطعهُ عني؛ لكنَّه لم يكن قادراً على مساعدتي بشأن العودة إلى مدينة بيرث؛ إذْ كانت مدن أستراليا قد أغلقتْ جميع مطاراتها ومرافقها الحياتية والسياحية والتعليمية بالكامل؛ وهناك عشرات آلاف الأستراليين في مدن العالم كانوا مثلي ينتظرون العودة إلى عوائلهم، فيما تكرر تأجيل رحلتي على الخطوط القطرية عشرات المرات حتى أكملتُ الشهر السابع على مكوثي في البلاد وليس هناك من بارقة أمل لأكون بين عائلتي؛ في الواقع كنتُ أسعى إلى الموت بهذا المرض الخطير إذا نال مني بين عائلتي وهو يحصد الآلاف في كل يوم؛ وبرغم عدم التزامي بارتداء الكمامة كما ينبغي والسفر مع صديقي القاص علي حسين عبيد إلى بغداد عشرات المرات؛ والتجوال في شوارعها وزيارة وزارة الثقافة واتحاد الأدباء، لكني لم أشعر بأية أعراض من الفايروس الخطير؛ ويبدو أنَّه عجز على اصطياد رئتي؛ وربما ذلك يعود لإصابتي المبكرة بهذه الجائحة عندما كنت في بيرث ولم أكن أعرف أنه داء كورنا في ذلك الوقت. أصبح ديدني الالتحاق إلى عائلتي فكتبتُ إلى طبيب العائلة في مدينة بيرث أخبره أن الأدوية التي استخدمها لعلاج الضغط وداء السكري وقرحة المعدة ووهن القلب قد نفدت منذ شهور وأنَّ الأدوية البديلة التي استخدمها لا تفي بالغرض؛ وأنَّ بقائي على هذا الحال يعني موتي فجأةً، بالوقت الذي أرسلت خطاباً قصيراً إلى وزير الثقافة في بيرث أعلمهُ عن موعد توقيع كتابي الشعريpoems that do not sleep الذي كتبتهُ باللغة الإنجليزية والصادر عن دار نشر Fremantle قبل أسابيع، مما يستدعي تواجدي هناك في حفل التوقيع؛ لم يمض سوى يومين حتى اتصلت بي السفارة الأسترالية في بغداد عن طريق موظف يتكلم باللهجة العراقية وأخبرني أنَّ السفارة تتابع وضعي الصحي باهتمام وتسعى على إيصال العلاجات لي من أستراليا برغم الظروف الصعبة لحركة الطيران وطلب مني إدامة التواصل معهم وإعلامي عن وضعي الصحي أول بأول. لا أريد الأدوية؛ إنما أريد الموت بين عائلتي هكذا حدَّثتُ نفسي بإحباط عندما أغلقت الهاتف. عندما حلَّ المساء فتحتُ بريدي الإلكتروني وإذا برسالة من وزارة الخارجية الأسترالية تخبرني بوجود ملف مرفق مع الرسالة يحمل تذكرة العودة إلى أستراليا؛ كاد قلبي يقع بين يدي حين فتحت الملف؛ أجل هذه تذكرة على الخطوط الإماراتية؛ تذكرةVIP ثمنها 15 ألف دولار أسترالي؛ وموعد السفر بعد أربعة أيام. عند الصباح هرعتُ لاستخراج شهادة صحية تثبتُ عدم إصابتي بالداء اللعين حتى يسمح لي بركوب الطائرة من مطار النجف؛ أية ساعات مريرة كان تزحف على هواجسي وأنا أنتظر نتيجة الفحص؛ فإصابتي بالمرض يعني ضياع تذكرة VIPمن يدي واحتراق آمالي وأحلامي. لكني في الموعد المحدد صعدتُ إلى الطائرة، وتلك كانت المرة الأولى في حياتي التي أطير بتذكرة رجال الأعمال وقد تحمَّلتْ الحكومة الأسترالية تكاليف ثمنها الباهظ عن طيب خاطر؛ تذكَّرتُ حكاية هذه التذكرة الثمينة جداً والتي لم أكن راغباً بالكتابة عنها برغم مرور أربع سنوات على الواقعة؛ لولا الحوار الذي جمعني قبل أيام مع صديق عتيق اعتذر من خلاله بكياسةٍ عن عدم دعوتي لمهرجان ثقافي في البلاد بسبب غلاء ثمن التذكرة والتي لا يتجاوز الألفين دولار أسترالي؛ وللبلدان في شعوبها ومبدعيها شؤون.
* نواصل حلقات الشاعر والبلاد الأسبوع القادم.