مراجعات في نقد العقل العربي.. عقدة النكوص والحداثة
حيدر علي الاسدي
وانا استمع لزوجتي وهي ترنم لابنتي بالتنويمة المعتادة المتوارثة ( دللوه ....) اشتعلت فكرة براسي ورن جرس مضمر داخل عقلي ، ان من اكبر اشكالياتنا العربية هو تعاملنا مع (الاغيار) بخاصة من نختلف معهم في الهوية والعرق والدين،(تلك هي العلة يا نفسي) لنترك كل هذه الاختلافات ولنأخذ اختلافا واحداً وهو الاختلاف في (الرأي) اننا ننظر الى الاغيار على انهم (عدو) بخاصة اولئك الذين نختلف معهم في الراي وهذا ما انسحب على ثقافتنا في التعامل وعد الاخر عدوا مفترضاً ( عدوك عليل وساكن الجول) أي تمني هذا لمن نخالفه الراي ان يكون (مريضا ) ويسكن البراري والصحاري هائماً على وجهه ، أي ثقافة تعامل هذه التي نعلمها لاطفال لم يبلغوا بعد ولم يتفطنوا لمنغصات هذه الحياة ، جرني البحث لثقافتنا العربية في الامثلة والفجاجة التي يحتويها ارثنا من المفردات العنفوية الدموية الدالة على الغاء الاخر من الاخيار واقصاءه نهائيا من مفهوم التواصل الايجابي (جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...) .وايضا ثمة ما يشاع لدينا من حكم مجحفة وامثلة مغلوطة ساذجة تبرر للفشل وتفسح له مجالا بين نفوسنا ( الشين الي تعرفه احسن من الزين الما تعرفه ) ( هذا باك هواي اكيد شبع ...ما نجيب واحد جديد خاف بعده جوعان) هذا على مستوى منظومة بناء سياسة تقود بلدان تنطلق ارضيتها من مقولات اجتماعية (بايخة) وساذجة وفجة جدا وتركن الى هشاشة هذا المجتمع المبنية على الافتراضات والقال والقيل بفضل هاته الكلمتان دمرت اجيال وقتل علماء وغيب العشرات من المفكرين ( قالوا وسمعنا) انها اصل متجذر في ثقافتنا العربية المريضة وسنجري بعض المراجعات النقدية لهذا الفكر والعقل العربي والذي جعلنا نتراجع للخلف سنوات شمسية عدة بفضل سيكولوجية الفرد العربي كذات منفصلة متفردة وسيسولوجية المجتمعات العربية ذات الانبناء السطحي في غالب الاحيان والتي تركن للبحث عن كماليات زائفة لا تشكل جوهر الوجود، اول تلك المتناقضات المناهج الاحادية التي مضى عليها دهرا والتي بالتالي تسعى لافراز مخرجات كانت قد تلقت نفس المناهج اليوم وقبل 50 عاماً وبالتالي خلق اجيال نمطية التفكير الاحادي غير قادرة على التميز والبروز والمخالفة للعقل الجمعي الذي يشيع المفاهيم المغلوطة وهذا الامر ما يجرنا للحديث عن كتاب (تعليم المقهورين) للمدرس البرازيلي باولو ريجلوس نيفيس فريري الذي اوضح ان المناهج النمطية الستاتيك الجامدة تخلق لنا انماطاً متشابهة غير قادرة على التغيير والاحرى استبدالها بالتعليم الحواري القائم على التفاعل، وكم نحتاج الديالكتيك الناجع وليس القائم على السفسطة ، ومن مشاكلنا كذلك الاستيراد الاعمى لاشكاليات الفلسفة الاوربية دون دراية بالفجوات الفكرية لمنطقتنا العربية وبالتالي ايقاعنا بخلل اخر بدءا من رفاعة الطهطاوي ومروراً برواد النهضة العربية وربما من ابرز الاشكاليات التي استوردتها ثقافتنا العربية المعاصرة هو الهذيانات الفلسفية التي انتجتها اوربا باسم الحداثة والتنوير والتي نقلت لنا حرفيا لتشكل جذراً راسخاً مقنناً في ثقافة النخبة العربية (الانتجلسيا) مما انعكس على جل التنظيرات التنويرية العربية وهو ما خلق البون والهوة الواسعة ما بين ابراج المثقفين وما بين كهوف البسطاء ، وهذه الهذيانات باسم الفلسفة والسفسطة هم انفسهم لم يتخلصوا منها فضلا عن ان سياسات اوربا انتجت على يدي الماكينة الصناعية وليست الفكرية التي غالبها السفسطة والثرثرة الكلامية التي لا جدوى ولا طائل منها رغم اننا نعيش عصر ما بعد الثورة الصناعية، فبناء المجتمعات وازدهارها بني على ايد الرفاهية والاقتصاد المنتعش وبالتالي ثقافة روسيا ومفكريها لم يقفوا حائلاً امام المد الاقتصادي الامريكي بل وحتى الصيني ، ولم تكن الصين يوما تصل لما وصلت اليه من دولة اقتصادية تنافس باقتصادها العالمي بلدان كبيرة مثل امريكا على يدي كونفوشيوس او الطقوس الروحية الشرقية!!!(مع الاحترام لتنظيرات كونفوشيوس عن ضرورات الحكومة الخادمة وعدم الخوض بتفاصيلها في الوقت الحالي) ومن مشاكلنا كذلك انشغال العرب بالعدو الوهمي الذي نتوجس منه خيفة من كل الجوانب (نظرية المؤامرة) ، ونعتقد بكل من يخالفنا الهوية او الدين هو عدو مفترض نضع مسبقاً له نوايا وغايات في أي خطوة يخطوها باتجاهنا حتى وان كان يشترك معنا في نفس هوية البلد ولكن يختلف معنا في هويته الدينية ، وهو ما يقودنا لمسالة الدين في المجتمعات وهيمنته على العقلية العربية ولا اقصد الدين كثابت مقدس بل المتدينين كمتحركين يسيطرون على الخطاب الاعلامي والشعبي بفعل ظروف شتى لا يسع المقال لذكرها ، بل حتى ثوراتنا كما يرى المنظر الاجتماعي علي الوردي انطلقت من نفس عشائري ، أي ان المتدينين والعشائريين يهيمنون على تفكير الانسان العربي وبالذات العراقي ، وبالحتمية المنطقية هاتان الصفتان تجعلان الانسان في قطيعة دائمة مع امور شتى وبخاصة تلك التحولات التي تحدث في العوالم والتي يصعب مواكبتها بالصمت والروحانيات فقط!!!(مع التسليم بسيادة الاسلام السياسي في المنطقة العربية برمتها) حتى ان المفهوم الالهي لا يقبل لزوم الصومعة وترك الاخرين يعملون ونحن ازاء متغيرات جمة في العالم تتطلب وجودا فعلياً للانسان ولكن وجوداً من نوع اخر!!وجود يحول المفردات الدينية الى سلوكيات تؤثر على عملية انتاج الانسان والمنتج باشكاله كافة وبذكر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي حدد المشاكل في الشخصية العراقية بثلاث امور (ازدواج الشخصية- صراع البداوة والحضارة-والتناشز الاجتماعي ) وهذه الفرضيات الثلاث اقتبسها الوردي من مكايفر واوكبرن وابن خلدون ساترك اول نقطتين واذهب للأخيرة والتي تهمني في مجال النقد والتشريح في المقام رغم ان كلها تدور في الفلك الانثروبولوجي.
اذ ان تناشر مجتمعاتنا وتباعدها الدائمي وتفرقتها المبنية على عقائد وافكار وعدم وجود رابط مركزي ومشترك وطني يجمعها تحت لواء الهوية الوطنية هو ما يعرقل عملية التقدم الجماعي او التغيير للأفضل لتلك المجتمعات سواء المجتمع العراقي او حتى بعض المجتمعات العربية المصابة بنفس هذا المرض السيسولوجي وهذا ما ينبأ بحكومة عادلة ستظهر باخر الزمان يقودها اخر اهل بيت النبوة ويحقق العدل من خلال حكومة احادية مركزية بقيادته (عليه السلام) واعني هنا الامام المنقذ المنتظر.
وايضا لابد الحديث عن نقطة خطيرة جدا وهي ان العرب والانسان العربي والمخطط العربي للاسف استراتيجته مد بصره وما هو امام اعينهم ولاسيما في اقتصادهم الذين يعتمدون عليه بشكل كلي ومن اجله قامت الحروب والنزاعات واعني هنا (النفط) وهو ما جعل اقتصادهم احادي الجانب وكلما تخلخل سعر النفط العالمي اختلت ميزانية تلك البلدان وما جرى في العراق والمنطقة مؤخراً خير دليل على ما نقول ، وايضا من مشاكلنا الازلية الصراعات العربية الداخلية في منظومات بلدانهم ما بين المتصارعين على الحكم ، فالحكم لدى البلدان العربية يعني (الثراء الفاحش والوجاهة / الرياء والنفاق الاجتماعي) عكس البلدان الغربية التي يعني بمفهومها الحكم ( الخدمة العامة ) وجاء مفهوم الثراء الفاحش بفضل عدم وجود حراس للميزانية السائبة في البلدان العربية بوصف تلك البلدان (طفلا) في غالب الاحيان يحتاج وصياً على ماله وبالتأكيد هذا الوصي دائما ما تكون له حصة الاسد (الاستعمار بأوجهه الصريحة) وكذلك انشغال العرب بمفاهيم رجعية متخلفة يدعون انها من التمدن والحضارة ومنها المساواة ما بين الجنسين او مفهوم الجندر والتصارع حول مكانة المراة وغيرها من قضايا سطحية لا تشكل جوهر الانتقال المجتمعي لطفرات نوعية تقدم من المجتمعات وهذه القضايا هي الاخرى في السنوات المتأخرة قد شكلت عائقا امام المسيرة التقدمية في المنظار العربي ، فضلاً عن قتل فكر المفكرين العرب وعدم اعطائهم فسحة لارساء آرائهم في الميادين التطبيقية العربية كالمدارس والجامعات واعتماد الجامعات على تلقف المناهج الفلسفية الغربية التي هي ثوب اكبر منا وحملتنا ما لا نطيق البتة فضلا عن ثقافتنا البطريكية (ألابوية ) والانغلاق على المحلية الفجة لدى طبقة المثقفين الذين يتمتعون بنرجسية عالية جعلتهم في مسافة بعيدة عن الراي العام وكل واحد فيهم يرى في نفسه (نرسيس) والاله الاعظم وفوق مستوى البشر!! ،ناهيك عن الاسلامفوبيا لدى البلدان الاخرى والتوجس من كل ما يتصل بالاسلام بوصفه الدين الرسمي لأغلب البلدان العربية ، وهو ما افرز الموضوعية المتزمتة الفجة الكلاسيكية لدى العديد من دعاة التنوير العربي الذين هم كذلك اضافوا صفة انغلاق اخرى باعدت بيننا وبين خطاب الاغيار من مدن العالم المتقدم ، رغم ان الحداثة في اخر قرنين تحولت من العقلانية الموضوعية الى العقلانية الذرائعية او كما يطلق عليها البعض بالاداتية التقنية (وهذا التحول بحد ذاته يحتاج لوقفة طويلة) وبمناسبة ذكر مدن العالم المتقدم ارى انه من الخطأ والفجاجة ان نطلق على انفسنا نحن في العراق باننا من البلدان النامية لان البلدان النامية بمعنى انها في بداية نموها بشتى المجالات ولكننا ننمو الى الخلف والتراجع لألاف السنين والنكوص للخلف واستدعاء التراث والتاريخ بغير محله ليكون حاكما على الحاضر الذي شهد تحولات كبيرة وفجوات عدة لا يمكن للتاريخ العربي ان يستوعبها كلها ، ناهيك عن التعامل السطحي اللاهث مع العولمة والتكنولوجية ولهاثنا وراء زخرف شرق اسيا من الصناعات الاستهلاكية التي اشبه ما تكون بلعب اطفال تسير حياتنا بهشاشة المنتج قصير الامد، والاشنع من كل هذا هو اهتمام التاريخ العربي بحياة السلاطين والملوك وليس بتاريخ المجتمعات وهو ما افضى تاريخا مشوباً بالحروب والنكسات وتصدير القادة الطغاة وهو ما جعل القادة المعاصرون يستلهمون تلك الصفات السلطوية من التاريخ العربي المشبع من هذه النماذج بحجج البطولات الزائفة التي لم نجني منها حاضراً سوى القطيعة من دول العالم المتقدم!! كما ان لجوء الانسان العربي البسيط لارثه الحضاري والتاريخي في تفسير أي ظواهر وجودية او استحداثات وطفرات جديدة تتعلق بالنظام العالمي ومجرياته السياسية والاقتصادية هو الاخر اصبح من الاشكاليات المنغصة، لان الانسان المعاصر ولا سيما المتعصب دينياً بطبعه انتقائي في قراءته للتاريخ الاسلامي ويعتمد على مزاجيته في استلال الفكرة التي تقفز لذهنه وتعضد رأيه المعاصر في اية قضية ما ، وارى انه من الصواب ما فعله احد المؤرخين العرب الا وهو خالد فهمي حينما كتب كتابا بعنوان ( كل رجال الباشا) متحدثا عن الجيش في عصر محمد علي باشا وهو يقودنا الى تفشي المفاهيم المغلوطة لدينا بالدراسة الاكاديمية في مسألة التخصص وانفتاح الدرس الغربي على التنوع وعدم الميل للتخصص الخانق ، واعتماد التخصص الميداني وليس النظري وهو ما يفرز نتيجة بانه لا توجد لدينا خطابات نقدية جريئة لمحاكاة ونقد وعينا بتاريخنا وحضارتنا وحتى تاريخنا المجتمعي ، ومدى استفادة الانسان المعاصر من تلك الايجابيات وطرح السلبيات على طاولة التشريح والنقد والمراجعة وبما يرفع الزيغ والانحراف الحاصل جراء الارث التاريخي المملوء فجوات ونكبات وبالتالي النكوص لها احساسا بالاطمئنان او البحث عن المعالجات يوهمنا بمخاطر اخرى لعل من ابرزها معيشة الانسان العربي في حيرة دائمة وتساؤلات لا اجابات لها ، ووهن ووهم يدور به لمحطات لا توقف فيها سوى بالاغتراب لبلدان العالم المتقدم التي توفر افيون وقتي لانساء المواطن العربي كل همومه ونكباته الشخصية والجماعية. ناهيك عن وقوع العرب بفخاخ المركزية الغربية في كل تصرفاتنا للأسف بدءا من الموضوعة وصولا للمناهج الدراسية والغياب الحقيقي للمؤسسات بالمعنى الاصح والدقيق للكلمة وبالتالي شياع الفوضوية والارتجالية بكل شيء في حياتنا وغياب التخطيط من الحكومات التي تعتمد هي الاخرى الارتجالية وعدم التخطيط ، كما ان عدم معرفة الانسان العربي أي هدف لوجوده وعدم رسم البلدان لستراتيجيات تنموية واضحة المعالم كلها افقدت هيبة الانسان العربي واطاحت به للحظيظ ولذلك تراجعنا نحن وتقدموا هم وهي اجابة للسؤال الازلي الذي طالما طرحناه وطرحه المواطن العربي بكثرة (لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟).