علم وليس طبخة دولمة.. النظم السياسية والإجتماعية
ضرغام الدباغ
في الحوارات الخاصة، أتعرض كثيراً إلى أسئلة من الأصدقاء والقراء ... تساؤلات عن تأكيدي أن النظام الحالي السياسي الذي نصبه الاحتلال الأمريكي / الإيراني في العراق سينهار، بعض الأصدقاء لا يخفي دهشته من قناعتي هذه، وبعضهم يشكك بها، ولكني أقول للجميع، أن قناعتي هذه تعزز بمرور الأيام ويؤسفني القول أن الحجج التي يطرحها أصدقائي ليست علمية وتنهار أمام السوابق التاريخية التي أعرضها وهي مقنعة بالطبع، ولكن البعض يميل إلى نكهة التفكير الشرقي، والنتائج الأسطورية الخرافية أكثر من قبوله بالنتائج العلمية.
اجهزة سرية
ابتداء لنتذكر، أن كثرة الأجهزة السرية والميليشيات، والأنظمة الأمنية لا تطيل عمر الأنظمة، والدليل على ذلك أن أنظمة عديدة كان نظامها الأمني متطوراً ومحكما لدرجة، يخيل لك أنهم مسيطرون حتى على الطيور في الجو، ونظام السافاك (الأمن الإيراني) كان يستخدم 5 ملايين إنسان، سقط بسهولة شديدة، حين رفعت السفارة الأمريكية في طهران يد الحماية عنه. فالنظم التي تعتمد على الأجهزة الأمنية، يكمن اعتمادها الحقيقي على دعم الأجهزة الخارجية
ومن الأمور المهمة أيضاً الذكر وهي من البديهيات، أن تداول السلطة السياسية هي من صلب الموضوعات السياسية، ومن أول مبادئ السياسة، الاعتراف بالتغير والقبول به، إذن إذا شاء نظام ما أن يستقر ويدوم لفترة طويلة، فعليه أن يوفر لنظامه أقصى قدر من الشرعية، والمرونة حيال الرأي الآخر، وأن لا يحاول غلق الأفق بوسائل الضغط والاكراه، فهو (النظام) بهذا يدفع إلى مسارات حادة ربما تعبر عنها احتجاجات عنيفة، وانتفاضات وثورات، وأحداث دموية.
بسهولة يمكننا تحليل أصول النظام السياسي، والقوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في مجتمع النظام الطائفي / العنصري. وابتداء، فإن النظام الطائفي / العنصري، يمثل في اغلب الحالات التاريخية رغبة جهة أجنبية، أو قوة احتلال، لأن النظام الطائفي هو إلغاء لعناصر وتشكيلات دينية وعرقية مطلوب أبعادها عن مسرح الحياة السياسية، وبالتالي فإن هذا النظام لا يمثل سوى نسبة معينة من إرادة السكان. وليس هذا فحسب، بل أن النظام الطائفي، لا يحضى بقبول وتأييد نسبة كبيرة حتى من الطائفة المهيمنة، التي ترفض أن يكونوا أدوات سياسية بيد قوى تمثل مصالح أجنبية.
الجهة الأجنبية تعلم أن ما تفعله هو ماس بسيادة البلد ووحدته، فالبلد / الشعب ليس تظاهرة سياسية حاشدة، ولا شعائر وتقاليد دينية، بل منظومة عناصر وعوامل، تآلفت وأتلفت، وتناسقت مزاجيا وخلقياً فيما بينها، وتشكلت ربما مئات من العناصر التي يندر جمعها في كيان فني، مصطنع، ولكن مئات وألاف القرون شكلت وحدة طبيعية خلقية مزاجية والامتزاج أعراق وطبائع، وثقافة، في وحدة وطنية وثقافية واقتصادية، وتاريخ سياسي واجتماعي، ومصالح تمثلها مشتركات نسجت منها الوحدة الوطنية، وتقويضها مسألة مشكوك بنجاحها وجدوى نتائجها.
وحين نقول أن الكيان الوطني يتألف عبر مسيرة من ألاف السنين، ولا يمكن خلق كيان فني، مهما برع مهندسوه، ويعتقد البعض أن بالإمكان تركيب النظام كما تركب قطع الماكنة، إذا أمنا له ميكانيكي ماهر، أو إذا كانت لدينا الخارطة الفنية / التقنية للماكنة (Mape)، ولكن ما هذه إلا أوهام يعتقد البعض أنهم بذلك يمكنهم تكوين أمم ومجتمعات، وقد يضيف البعض معتقداً أن شروطاً يعتقد أنها إن توفرت فربما تمنح قبلة الحياة لكيان مشوه غير متجانس. وسأضرب مثلاً واضحاً لأقصى درجة: (1)
الكيان الصهيوني «إسرائيل» كمثال آخر:
يعتقد منظروا هذا الكيان، أنه يكفي أن يكون الفرد يهوديا، لكي يصلح أن يكون مواطناً في هذا الكيان. ولو أجتهد هؤلاء المنظرون الذين تخلوا عن علميتهم، لوجدوا بسهولة شديدة العديد جداً من الأمثلة التي ما أستطاع فيها أفراد من ديانات التأقلم والاندماج (Integration) في المجتمع الصهيوني القائم على الدبانة محور جوهري، ورغم مرور 76 عاماً على تأسيس الكيان، فالكيان لا شعب لديه، وبالضبط يسمون « مستوطنين / Settlers «، وما زال اليهود العراقيون لهم أحياءهم ومطاعمهم، وأغانيهم، وأدبهم. وما يقال عن اليهود العراقيون يقال عن اليهود المغاربة، واليمنيين، أو البولونيين أو الروس.، وفي اقصى الحالات يعتبر اليهود صنفين: أشكناز / اليهود الشرقيين، وسفرديم/ اليهود الغربيين. اليهود الغربيين يفكرون ولهم نظام تفكير (system of thought)و بالالمانية / (denksystemردود فعل تشبه التفكير الأوربي وفي الأحداث الحرجة، يعود اليهود المهاجرين ألى أوطانهم الاصلية، كما يحدث الأن في فلسطين المحتلة.
هجرة جماعية
مثال آخر لمسته بنفسي: في الولايات المتحدة، حين أرغم المسيحيون العراقيون على الهجرة من العراق بعد حرب 2003، تجمعوا (غالباً) في مدينة مشيغان، والسبب أن مشيغان تعرف هجرة عرب يمنيين إليها منذ بداية القرن العشرين، ومعظم عمال مصانع شركة فورد للسيارات هم من اليمنيين ومن اولادهم واحفادهم. وما زالوا يسكنون في مجمعات مشتركة والمسيحيون العراقيون تجمعوا (غالبا) هناك. وحتى في الولايات الامريكية الأخرى : شيكاغو، كالبفورنيا، ولهم أحياءهم ومطاعمهم بل وحتى مخابزهم (الخبز العراقي / التنور) وحتى في بيوتهم يخبزون بالتنور. ويسمعون سعدي الخلي وياس خضر ...وأكثر من ذلك ... في بيوتهم يعلقون العلم العراقي، وحين يريد الشاب العراقي المسيحي الزواج، فعلى الأرجح يتزوج عراقية، أو يذهب للعراق ويتزوج عراقية. لقد شاهدتهم وحضرت حفلاتهم، وأنا أعلم كم هم عراقيون حتى أعماق اعماقهم، ينفعلون بصدق حين يلتقون بعراقي ....
أريد القول لمن يعتقد أن الأمور تشبه طبخة دولمة، واهم من يعتقد ذلك ... واهم جداً لدرجة الأسف، وما يفعلونه هو بؤس حقيقي. فالافغان الذين هم أقرب للفرس من العرب (عرقيا) ويتحدث نسبة كبيرة منهم اللغة الفارسية، ولكنهم بعيدون عن بعض بعداً كبيرا، والافغاني يغضب إن اعتقدت أنه فارسي، فكيف تعتقد أنهم سيستقيم لهم حال في العراق وفي سورية ..؟ الامريكان وراء هذه الألعاب البهلوانية، لأنهم شعب بلا أصل ولا هوية، ناس أتفقوا على العيش المشترك، ويحاولون ويتفلسفون ولم دون جدوى، واليوم يواجهون عواقب ما بفعلوا .. وما أعتقدوا، فالمكسيكي يفر من المكسيك مجازفا بحياته، ولكنه في أميركا يبقى مكسيكياً للعظم، واليهود الذي يرى في أميركا بلدا غالياً على قلبه، ولكنه يبقى يهودي روسي، أو بولوني، أو هنغاري، مهما بلغ من درجات التقدم، ولك في جورج فريدمان الشخصية الفكرية / السياسية الكبيرة، مدير معهد العلاقات الخارجية في وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) ولكنه يعتز بهنغاريته، ويقضي إجازاته في بودابست، ومثله كان هنري كيسنجر اليهودي الألماني يفعل.
فرصة العيش
أتيحت لي فرصة العيش عقود عديدة في بلد (ألمانيا) له خصائصه المميزة جداً، بحيث بوسع الأريب، أن يدرك بسرعة، أو بنظرة واحدة أنه في ألمانيا وليس في بولونيا، أو ليس في السويد، أو هنغاريا أو حتى فرنسا وبريطانيا. وبالنسبة لي فقد حصل مراراً فحين أسافر خارج ألمانيا، أشاهد رجل وإمرأة يسيران في الشارع، أو ينتظران الطائرة في المطارات، وبنظرة واحدة أخمن أنهم من الألمان. فأنا أستطيع بسهولة أن أميز المزاج الألماني في الملابس والطعام، وفي حقيبة السفر، وفي أشياء كثيرة. وحتى في السلوك.
الغاية من هذا العرض والاستعراض، أن أقدم نصيحة مجانية، لا تحاولوا أن تسبحوا ضد تيار الحياة والعلم والتاريخ، ولكي تتأكدوا من قولي راجعوا الأمثلة التاريخية، ومن تأتون بهم سيبقون غرباء إلى الأبد، ولو بعد مئة عام وسيتعرضون لمتاعب كثيرة منها أنهم سيهجرون ويتبهدلون وأنتم من سيجني عليهم ..!
1. قبلة الحياة:
حين يتعرض شخص ما لحادثة غرق، وربما صعقة كهربائية، وتبدو عليه أعراض الاحتضار والوفاة، يقوم المسعف، بفتح فم المصاب، ووضع شفتيه فوق شفة المصاب والنفخ عدة مرات الهواء إلى رئة المصاب. وقد يستجب المصاب ويلتقط أنفاسه وتعود له الحياة.