الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بغل الديرة

بواسطة azzaman

بغل الديرة

علي الجنابي

 

جاءَ رجلٌ من أطرافِ الحَيِّ بعدَ قيلولةِ الظَّهيرة، يسألُ أهلَ الحيِّ بنَظرةٍ مُستَغرِبةٍ ذاتِ حِيرة، فَقَالَ؛ أَنبِئُونِي مَن هوَ في النَّاسِ بَغْلُ الدِّيرَة؟

لا ريبَ أنَّهُ سائلٌ قد أتى ليستَعلِمَ بشَفَقَةٍ مُستَشيرَة، أو رُبَما ليستَفهِمَ، أو لرُبَّما أتى ليَستَجيرَ. ولا شَكَّ أنَّهُ سؤالٌ عَويصٌ يُصَيِّرُ الذَّاتَ منهُ نافرَةً ومُستَطيرَة، وجوابُهُ بحَاجةٍ لتَمحيصٍ على طَاولةِ بَحثٍ في المَقهى مُستَديرَة، ذاكَ أنَّ البغالَ قد كَثُرَت أصنافُها في ذا دَهرٍ، وقد كثُرَ تُجوالُها في دُروبِ الدِّيرة.

ثُمَّ بعدَ استِحضارِ لمَا في مُتُونِ الأحدَاثِ من أحوالٍ عَسيرةٍ، ومِمَّا في عُيونِ التُّراثِ من أقوالٍ بَصيرَة، تَسنَّتِ لأشياخِ المَقهى فنونُ الإجابةِ عن خَميرة، واستَغنَت بدلائِلَ دامِغَةٍ وحُجَجٍ مُستَنيرَة. ولقد هالَ أهلُ المَقهى ما جَفَّتِ الإجَابةُ عن شؤونٍ خطيرَة، وأوجَفَتهُم مِن أحوالٍ بشُجونٍ كثيرة، وكأنَّهمُ ما سَمِعوا من قبلُ قطُّ عن صفاتِ بَغلِ الدِّيرَة. فقد ظَنّوا أنَّ بَغلَ الدِّيرَة هو الفقيرُ البئيسُ الغبيُّ القانِعُ بحَصيرة، أوِ الثَّريُّ الأنيسُ البَغيُّ المانِعَ لعَصيره، بيدَ أنَّهمُ اليومَ عَرَفوا من طاولةِ أشياخِهم المُستديرة، أنَّ بَغلَ الدِّيرَة ليسَ..

* المَرءُ الزَّعيمٌ الذي يظنُّ أنَّ صفيرَ المُغرِّدينَ لهُ بولاءٍ تام، هو تَفخيمٌ لهُ وتعظيمٌ بخالصٍ مِن ولاءاتٍ مَطيرة، وتراهُ يَتغافَلُ عن خطبِ ذَبحِهِ مِن مُغَرِّديهِ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ كنَعجَةٍ في ليلةٍ شتويةٍ مَطيرة. وليسَ البَغلُ هوَ مِنَ المُغَرِّدينَ بينَ يدي كلِّ زعيمٍ كي ينالوا من دَنانيره. بلِ البَغلُ هوَ ثالِثٌ دونيٌّ خانسٌ ويَتَمَنَّى في سِرِّهِ؛ «يا ليتَني كنتُ مُغرِّداً معهُم فأحظى مِن تَصاويره، ولعلّيَ أكونُ الوزيرَ أو أكونُ السَّفير». ثمَّ ليسَ بَغلُ الدِّيرَة هو..

 المَرءُ الذَّميمٌ الذي يظنُّ أنَّ الدَّجلَ رهانٌ كافِلٌ لتَدَفُّقِ المَالِ وتَكثِيره، وأنَّ التَّدليسَ حِصانٌ حافِلٌ بتَألُّقِ الجَاهِ وعَبيره، ونسيَ أنَّ المالَ وسيلةٌ مُقَدَّرةٌ تُربَى من ربِّ السَّماءِ بقويمِ تقدِيره، وتناسى أنَّ الجَاهَ فسيلةٌ تأبى أن تُسقى بماءٍ من سقيمِ تدَابيره. وليسَ البغلُ هوَ مِنَ انخَدَعَ بالدَّجَلِ وتَنانيره وانصدَغَ بالتَّدليسِ وأساريره، رُغمَ أنَّ فطرَةَ اللهِ تمنَعُهُ عن إيمانٍ بالدَّجلِ وتَنظيره، وتردَعُهُ عن حرفَةٍ بتَدليسٍ مَهما قلَّ تَقطيره. بلِ البَغلُ هوَ ثالِثٌ خَفِيٌّ جالِسٌ في سِرِّهِ ويَتَبَنَّى أن يفوزَ بخطفَةٍ ذاتِ دَجلِ كي يحوزَ بها على حياةٍ ماجِنةٍ أو هكذا يظنُّ تَبريره. ثُمَّ ليسَ بَغلُ الدِّيرَة هو..

 المَرءُ اللئيمُ ويظنُّ أنَّ العِلمَ شهادةٌ يَمتَطيها كي يَملأ بها جيبَهُ من دَرَاهِمَ سُحْتٍ حَقيرة، ويَتَجاهَلُ أنَّ بُراقَ العِلمِ من نورٍ لا يمتَطيهُ إلّا ذوو نفوسٍ زاكيةٍ خَبيرة. وليسَ البغلُ هوَ المُعَلِّمُ العَقيمُ الذّي يُسِّرُ في نَفسِهِ القولَ؛ «لَيْسَ لِي مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما دامَ النَّاسَ كانوا كافرينَ بأنوارِ العُلومِ المُثيرة. بلِ البَغلُ هوَ ثالِثُهما العابِسُ على العِلمِ وتَحبيره، وتراهُ يوصي أولادَه باقتفاءِ خطواتِ ذاكَ المَرءِ اللئيمِ وأن يَتَّخذوهُ قدوةً مُعتَبَرَةً لهم وكبيرة. ثُمَّ ليسَ بَغلُ الدِّيرَة هو..

غفوة هانئة

المَرءُ البهيمُ ولا يَتفَكِّرُ بحياةِ المُهَجَّرينَ إلّا ما يّختَصُّ بمأكلٍ وملبسٍ وبغفوةٍ هانئةٍ بجنسِ الأنامِ جديرة، لكنَّهُ غافلٌ عن تَدَبُّرٍ في آهاتِ القَلقِ لربِّ أسرةٍ في خَيمةٍ محتَضِنٍ لبناتِهِ خشيةَ ذواتٍ فاجرةٍ في ذا خليطٍ هجينٍ وشِريرة.

وثَمًّةَ أزواجٌ مِن بغالِ الدِّيرةِ، وأزواجٌ كثيرةٌ كثيرة، لا غَمَّ لها إلّا تَربيةُ الكِرشِ وتَدويره، وتَسليَةُ الفَرْجِ وتَثويره، ثُمَّ لا هَمَّ لها إلّا التَمَلُّصُ والتَّعنفًصُ في دُروبِ الدِّيرة.

ثمَّ نَهضَ الرَّجلُ السَّائلُ عن ملامحِ بَغْلُ الدِّيرَة، فقالَ بوجيزِ كلمةٍ قَصيرة؛ بئسَ الحَيِّ حَييكمُ، فما أكثرَ البغالَ في ذي ديرة»! 

﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾

 


مشاهدات 299
الكاتب علي الجنابي
أضيف 2024/06/11 - 4:27 PM
آخر تحديث 2024/07/18 - 11:36 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 260 الشهر 7828 الكلي 9369900
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير