وداعاً صلاح عمر العلي : للتأريخ الوطني حق..الإنسان والمناضل والشريف
رياض عبد الكريم
الفوضى السياسية بدأت من حيث انتهت الحرب عام 2003 ، وتنامت بشكل سريع وربما مقصود ومخطط له من بعض الجهات والاطراف التي دخلت العراق مع دخول القوات الامريكية ، اذ ليس من المنطقي والواقعي ان تمتلك هذه المجاميع السياسية او التي ادعت بأنها سياسية ، كل هذه الاموال التي تنفق على حملاتهم الترويجية وتأجير المقرات وتأثيثها وشراء السيارات وتوظيف الكوادر والحمايات ، مالم تكن هناك جهات منظمة تدفع لهم مستغلة ظروف البلد السيئة والانفلات الامني والقانوني الذي ينظم اجراءات تأسيس الاحزاب.
وازاء ماحصل في العراق من سوء وارباك ومن محاولة البعض الكثير من الدخلاء
لكي يمرروا اجندات داخلية واقليمية هدفها تدمير البنية العراقية وسرقة اموال الشعب ، وبالاخص بعدما اعلن عن تشكيل مجلس الحكم ، الذي كشف وبوضوح عن تأسيس ركائز المحاصصة الطائفية شديدة النزعة ، ايقنت تماما ان البلد يسير بأتجاه المجهول او ربما المعلوم المتوقع نحو الانهيار ، فلم يكن بوسعي عمل اي شيء للتعبير عن رفضي لكل مايجري سوى التوجه للكتابة مجددا بعد انقطاع طويل ، عبر مقالات سياسية في المواقع الالكترونية ومنها موقع كتابات والجيران وايلاف والحوار المتمدن وصحيفة الزمان ، منتقدا فيها الواقع السياسي في العراق والطبقة التي انبثقت عنه.
الصحافة والموقف
نهاية عام 2003 ، اتصل بي صديق العمر العزيز وليد عمر العلي ، وخبرني بعودة اخيه الاكبر صلاح عمر العلي الى العراق ، وابلغني برغبته باللقاء بي لبحث ودراسة مشروع صحفي ، وفي الموعد الذي تحدد كنت في بيت وليد حيث كان يقيم معه صلاح ، وجرى الحديث بحضور وليد عن نيته اصدار صحيفة اسبوعية تعنى بالشأن السياسي العراقي حصرا والشؤون العربية والعالمية عموما ، واطلعني على سياسة وتوجهات الصحيفة التي تتبنى مشروعاً سياسياً وطنياً عابراً للطائفية والمناطقية والموالات والتمسك بهوية العراق وسيادته الوطنية ورفض كل التدخلات الاجنبية في الشأن العراقي ، والتعامل مع كل المكونات ضمن اطار العراق الموحد الذي لايميز فئة على حساب اخرى ، كنت خلال حديث الاخ صلاح اتحسس عمق كلماته وصدق مشاعره ونزاهة انتمائه ، وبالتأكيد شعرت ايضا انني وجدت من يتفق معي في الافكار التي كنت اتمنى ان تتحقق من اجل مستقبل زاهر للعراق ، وان لانجعل من المخططات التي توقعتها تغرقنا ونحن احياء ، استبشرت خيرا بهذه المهمة وشرفني بأن اتبنى طباعتها في مؤسستي الطباعية، وأكون احد كتاب الصحيفة ومديرها الفني.
امضيت حوالي عشرة ايام في اعداد ماكيت للصحيفة ، وتبويب صفحاتها وترتيب نشر المواد ، وبعد دراسة هذا الماكيت والاطلاع عليه اتفقنا ان نصدر العدد صفر ومن ثم ننطلق اسبوعيا ، واقترحت ان نضيف عبارة منحازة للوطن والشعب تحت اسم الصحيفة ، في مطلع عام 2004 صدر العدد صفر من الصحيفة بأسم الوفاق اليمقراطي صحيفة اسبوعية سياسية منحازة للوطن والشعب ، رئيس التحرير صلاح عمر العلي ، وبمشاركة نخبة من الصحفيين العراقيين منهم الاخ زيد الحلي حيث تولى مهمة مدير التحرير والاخ وليد عمر العلي سكرتير التحرير، ومن المحررين اذكر الاخ عادل الدلي والاخ عبد المنعم حمندي والاخ لقاء مكي ، ومن كتاب الاعمدة والمقالات عبد الحسين شعبان ووليد الزبيدي ، وعكاب سالم الطاهر وامجد توفيق ، بالاضافة الى ماكنت اكتبه من مقالات نقدية في الشأن السياسي كل اسبوع ، واستمر اصدار الصحيفة اسبوعيا بأنتظام بعد ان خصصت لهيئة التحرير غرفتين في المبنى الجديد للمؤسسة ، وبعد حوالي اربعة او خمسة اشهور تحول اصدارها الى نصف اسبوعية .
بناء الدولة الحديثة
كان الاخ صلاح من المتحمسين جدا لوضع اسس وطنية نزيهة وركائز ديمقراطية حقيقية ومحاربة الطائفية وتحصين حقوق الانسان وحرية التعبير، وفتح حوار وطني مع كل الاطراف السياسية في البلد ، معتبرا كل ذلك جزءا من سياسة بناء الدولة الحديثة ، وهي ذات الاسس التي طالب بها اثناء وجوده في قيادة حزب البعث في اوائل سبعينات القرن الماضي ، الا ان ذلك واجه رفضا قاطعا لكل هذه المطالب بل اعتبرتها قيادة الحزب انذاك ومن خلال موقف صدام نفسه تمردا على القيادة وتحدياً لمنطلقاتها الامر الذي دعى صدام ان يبعده عن العراق بتعينه سفيرا في السويد ، ولو كان بمقدوره ان يقتله لفعل ، لكن صلاح كان حينذاك يتمع بعلاقات طيبة مع كل النخب الوطنية ولديه شعبية واسعة بين الاوساط الفكرية والصحفية والاعلامية وكذلك يحظى باحترام الكثير من قادة البعث ومؤسسيه ، وهذا ماجعل صدام يتردد في قتله والاكتفاء بأبعاده ، وبعد ان استشرى الوضع في العراق وازدياد قمعية واستبدادية صدام استقال صلاح من ارقى المناصب التي يحلم بها اي سياسي واعلن نفسه معارضا لصدام وحاشيته ولسياسة حزب البعث بالمطلق ، وعند عودته للعراق كان متحمس جدا وباندفاع تفاؤلي ان يستغل التغيير الذي حصل لتصحيح المسارات والاسهام في خلق واقع سياسي مبني على المباديء الشفافة والتوافق الوطني والانتماء الحقيقي ، كي مايقع العراق في هاوية التخندقات والتوجهات الطائفية والسيطرات الاجنبية ، وكانت هذه الافكار هي محور مقالاته الافتتاحية لصحيفة الوفاق اسبوعيا ، فقد حملت تلك المقالات توجهات وطنية حقيقية لاقت استحسان واعجاب العديد من الشرفاء الوطنيين الذين كانوا في زيارات مستمرة له في مسكنه ، الذي اعتبره مقره السياسي من دون تأسيس حزب او كيان او حتى مقر ، وكنت استمع من خلال حضوري المتواصل للعديد من الشخصيات والتجمعات التي تزوره في مسكنه ، معلنة تأييدها ومساندتها لتلك التوجهات وكل طروحاته وافكاره السياسية، التي اراد لها ان تحقق نموذجا سياسيا يبتعد عن المصالح الذاتية والسعي وراء المكاسب والمناصب ،ويتوجه لبناء الدولة والمجتمع على وفق ضرورات العصر وبموجب التطورات الحضارية التي حصلت في غياب العراق عنها بسبب الحروب والحصار وسياسات القمع والتنكيل السابقة ، وشكلت عنده هذه المفردات هواجس الخوف من امكانية عدم تحقيقها كما كان يتوقع ، وبذلك وحسب تقديراته تحل المصيبة بالعراق ، وتفقد الامور زمامها من خلال هيمنة الاطراف السياسية على كامل الاوضاع والتحكم بمقدرات الشعب وضياع فرصة التغيير التي حصلت دون ان تحقق نتائجها المرتقبة .
وللامانة اقول ، ان هذا الرجل لم يطلب او يتوسط او يستغل علاقاته الواسعة بكل قادة واعضاء الكتل السياسية التي عمل مع معظمهم ايام المعارضة من اجل الحصول على المكاسب او المناصب ، كما فعلها جميع من هب ودب الى العراق للحصول على امتيازات واموال ومناصب ، لقد عاش وسكن فترة وجوده في بغداد في بيت اخيه الاصغر وليد ولم يمتلك حتى سيارة بل كان يتنقل بسيارة وليد وبرفقته ، وكان يمول صحيفته من مدخولاته الخاصة دون اي دعم من اية جهة خاصة ، وكموقف مني ودعما لمشروعه الوطني كنت اتقاضى منه فقط المبالغ التي تسد قيمة الورق.
سياسيو الرفض
كانت المطبعة تعج في تلك الفترة بالصحفيين والاكاديميين والكتاب والسياسيين ، مما جعل اروقة المطبعة وكأنها اروقة مؤسسة صحفية ومقر سياسي، تمتليء بشخصيات غالبا ما يجتمعون في مكتبي ويجمعهم الهم الوطني عبر نقاشات وسجالات وطروحات كانت بمجملها تعبر عن عدم الرضى لما يجري في العراق ، واستغرابهم للتوجهات والمخططات التي ابتعدت كليا عن هموم وطموحات الشعب والتصقت بالرغبات والتطلعات اللامشروعة للطبقة السياسية التي بدأت تزداد اعدادها بشكل رهيب.
كنت ازور الاخ صلاح باستمرار في بيت وليد ، ونجلس طويلا لمناقشة الامور التي تجري في البلد ، كان الرجل وهو السياسي المخضرم والمبدئي غالبا مايعبر عن تقديره وتفهمه لطروحاتي ، وعندما كنت اطلب منه التوسع في الانتشار والتوغل داخل الطبقة السياسية للاسهام في المناقشات والافكار من اجل اغناء التجربة وتصحيح المسارات كان يجيب ، ان معظم هؤلاء الموجودين الان على ارض العراق اعرفهم جيدا في زمن المعارضة عندما كنت مقيما في لندن ، ومن خلال فهمي واستنتاجاتي بعد تجربتي معهم ادركت ان هذه الشخصيات لاتملك الحد الادنى من فهم العمل السياسي وكيفية بناء الدول وماذا ينبغي عليهم تجاه الشعب الذي عانى طيلة عقود من الزمن من بطش صدام وقمعه ، لذلك والقول لصلاح ابتعدت عن هذه الشخصيات بعدما تأكدت من عدم وجود اية مشتركات واقعية ومخططات وطنية تربطهم ببعض .
انما الهم الاكبر لدى معظمهم هو كيفية الحصول على المناصب والمغانم والحصص الكبرى في الامتيازات ناهيك عن الاختلافات الكارثية فيما بينهم وعدم وجود نوايا صادقة لكيفية بناء الدولة وشكلها الدستوري وماذا يتوجب عليهم كقوى سياسية لمعالجة هموم ومظالم الشعب وفق اولوياته المستحقة ، فكيف تريد مني ان اكون جزءا من واقع ولد ميتا وليس بالامكان احياؤه .
في تلك الفترة ، بدأ تنظيم القاعدة بشن سلسلة من الانفجارات الدموية التي هزت بغداد والكثير من مدن العراق .
وكان ذلك هو الاعلان الاول لشيوع اسم القاعدة في العراق ، رافق هذه الاعمال الارهابية حوادث الخطف والاغتيلات والتهديد والترويع ، الامر الذي احدث ارباكا كبيرا وفوضى عارمة في كل كيان الدولة العراقية.في خضم هذه الفوضى ، ورعب وشدة الانفجارات استمر العمل في الصحيفة ، وقلل صلاح من تنقلاته ومجيئه الى المطبعة تحسبا للاستهداف او الاغتيال .
لكن حماسه زاد في التصدي عبر مقالاته ومواقفه ازاء ما الت اليه الاوضاع من سوء ، وتحذيراته المتكررة بل وتوقعاته المتشائمة بأن القادم من الزمن سيكون الاسوء والاكثر تعقيدا ، مشيرا ومؤكدا على ان العراق سيبتلى بالعديد من الازمات التي تفتعلها الطبقة السياسية لما يخدم مصالحها وغاياتها دون الاهتمام مطلقا بما سيلحق الشعب من ضرر ومظالم من جراء هذه الازمات .
توقف الصحيفة
في مطلع عام 2005 ، وبعد مضي اكثر من سنة على صدور الصحيفة ، بدأت موارد صلاح المالية بالنضوب ، وحاول ان يستمر الا انه لم يتمكن من ذلك ، وحاولت جاهدا ان اساعده لكنني لم اتمكن ايضا بسبب ارتفاع اسعار المواد والمستلزمات الطباعية،الامر الذي دفع به مضطرا لايقاف الصحيفة .
وكان في غاية الحزن والالم كونه لجأ الى القرار الاصعب والذي اعتبره قرارا ضيع فرصة كبيرة كان يمكن ان يكون لها صدى في تغيير او تحسين مسارات الوضع السياسي في العراق .
كانت تجربة فريدة من نوعها ، لانها تبنت على عاتقها كل المباديء الوطنية الصادقة ، وكل الحب والانتماء للعراق ، وحذرت من مستقبل مظلم اذا ما استمرت الاوضاع تسير بالاتجاه المعاكس والملفت للانتباه ان معظم السياسيين وعلى الرغم من قربهم وصداقتهم مع صلاح واطلاعهم على افكاره وطروحاته الا انهم امتنعوا عن الخوض في نقاشات او سجالات معه لانهم ادركوا بالتأكيد ان مسارهم لايتفق كليا مع مسار صلاح وهو الرافض لمعظم سياساتهم التي اعتمدت الوعود الزائفة والتخندق في بوتقة احزابهم وتمرير اجنداتهم التي اعتمدت معظمها على توجهات دول الجوار محذرا من خطورة هذه المواقف في سلسلة افتتاحيات كتبها في صحيفته .وبقيت على تواصل مع الاخ صلاح ازوه في بيت وليد ، ونجلس لساعات نناقش الامور بألم وحسرة ، ولم يبقى امامه من سبيل بعد تأكده من ان كل الامور تسير بالاتجاه المعاكس ، غادر العراق مضطرا من جديد ليبدأ مرحلة ثانية من العيش خارج الوطن ، دون ان يذكره او يسأل عنه ويستفسر عن احواله اي ممن كان معه في المعارضة او اثناء وجوده في العراق ، ولو من باب التقدير والاحترام لدوره المشرف في المعارضة وما قدمه من جهد وطني حقيقي للمساهمة في بناء العراق ، وفي تحدي ومجابهة اعتى دكتاتورية استبدادية ظالمة دمرت العراق وشعبه.