الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التعليم الإبتكاري بينَ الأَنسنة والذكاء الإصطناعي التوليدي

بواسطة azzaman

التعليم الإبتكاري بينَ الأَنسنة والذكاء الإصطناعي التوليدي

سعد غالب ياسين

 

مقدمة

نتناول في هذه الورقة البحثية تحليل إشكاليات التعليم الإبتكاري وتطبيقات الذكاء الإصطناعي التوليدي وتحديات الأنسنة (أنسنة التعلم وأنسنة التكنولوجيا الرقمية الذكية) وتأصيل التعليم وتحديثه في ظل عقود من الأزمات البنيوية الهائلة التي تقادم فيها التعليم في العراق وتلاشت معايير جودته أمام تطور نظم التعليم الإبتكارية والتكنولوجيا الرقمية ومناهج التعليم الحديثة .

وفي ظل غياب إستراتيجية تعليم شاملة ونظام وطني للإبتكار والبحث العلمي والتطوير المستدام وتراجع فرص (العراق الرقمي) أمام التحديات الهائلة للثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الذكاء الإصطناعي يفرض التغيير الجذري ضروراتهِ لبناء نظام تعليمي لا يقوم على المدخلات (بناء جامعات وكليات ومعاهد) وعمليات (موارد ومناهج) بل على المخرجات التعليمية (وتسمى نواتج التعلم Learning Outcomes) التي أُهملت وتدهورت بسبب غياب معايير الإعتماد المؤسسي والجودة الشاملة، وتأرجح التعليم في العراق بين جموح الأيديولوجيا وأوهام اليوتوبيا في معظم مراحل تطور الدولة.

ومع ذلك ، سنحاول في هذه الورقة صياغة رؤية لمفاهيم التعليم الإبتكاري ومقاربة متطلبات هذا التعليم بالذكاء الإصطناعي وما تطرحه من إشكاليات الأنسنة وغيرها.

1 -التعليم الإبتكاري:

ليس التعليم مجرد عملية إكساب الطالب المعارف والمهارات والكفايات، إنما هو ممارسة الحرية كما يرى محمد عابد الجابري.  التعليم هو قبل كل شيء تعلم التفكير وممارسته وليس تعلماً لمحتوى أو أنساق. فعملية التعلم هي في جوهرها إستعمال نقدي للعقل وتجاوز القيود والمحددات التي يفرضها والتي سبق أن تحدث عنها فرنسيس  بيكون في (الأرغانون الجديد) .

فالتعلم فاعلية بين المتعلّم والمعلمّ . أَما التعليم الإبتكار (أو التعلم الإبتكاري) فهو إبداع للأفكار ولوسائل التعلم ومناهج الفهم وإبداع لجدلية الإبتكار من حيث أن الإبتكار هو صيرورة التمكين لا التلقين.  تمكين الطالب للتعلم وليس تلقينه بالحفظ وضخ المعلومات.  وتمكين الطالب ليتعلم ذاتياً يتضمن بالضرورة على فهم خوارزميات التعلم التي تتشكل من خلال الحوار و النقاشات وإفتراض الفروض وتكذيبها وطرح الإسئلة بدلاً من تقديم الأجوبة الجاهزة .

تكنولوجيا رقمية

وإبتكار التعلم يقوم على ممارسة السؤال بحضور العقل الجمعي، والسؤال هو كيف نتعلم ؟ How we are Learning? بدلاً من ماذا نتعلم ؟ What are learning؟   .

التعليم بحضور العقل الجمعي يعني التشارك الجماعي بعملية التعلم وبدعم التكنولوجيا الرقمية الذكية إبتكار التعلم يتطلب إبداع طرق تعلم جديدة تضمن تحقيق نواتج التعلم Learning outcomes من معارف Knowledge ، ومهارات Skills ، وكفايات Competencies .  ومن هذه الكفايات تعلمّ الحوار والتثاقف، و احترام التنوع، والتعاون البناء ومهارات التواصل، واحترام الرأي الآخر والعقل النقدي، والمسؤولية الإجتماعية .

 2 -التعليم الإبتكاري والذكاء الإصطناعي التوليدي:

 الذكاء الإصطناعي التوليدي (GAT) هو ببساطة محاكاة الذكاء الإصطناعي من خلال نماذج خوارزمية تتولى تنفيذ الوظائف الإدراكية والفكرية التي كانت مقتصرة على الإنسان تفكيراً وحكماً وذكاءً وإنتاجاً، للمحتوى المعرفي وبنسب متفاوتة.

  الذكاء الإصطناعي التوليدي هو ذكاء إصطناعي متطور ينتج المحتوى المعرفي ويمثل حزمة متنوعة من نظم وتقنيات وخوارزميات تعلم عميق تعمل بمعمارية ووظائف الشبكات العصبية العميقة Neural Networks التي تجاوزت ما كان يعرف بتعلم الآلة Learning Machine . ويستخدم هذا الذكاء نماذج بنيات لغوية كبيرة Large Language Models مثل ChatGPT الذي تم تطويره من قبل Open AI.

ويدعم الذكاء الإصطناعي التوليدي إبتكار التعلم وإنتاج المحتوى بأنماط مختلفة وضمان تحقق نواتج التعلم وبالأخص نواتج التعلم الإدراكية والفكرية بالإضافة الى تعزيز مسار الوصول إلى التعلم العميق وتطوير صناعة المحتوى، علماً أن الذكاء الإصطناعي يضيف أكثر من (15) تريليون دولار للإقتصاد العالمي.  وفي عالم اليوم يغدو التحول صوب الذكاء الإطناعي قوة دافعة لا مثيل لها للإقتصاد والإزدهار الحضاري والتنمية المستدامة .

وبسبب إنفجار المعرفة وتضخم البيانات والنمو الأُسي الهائل لقوة المعالجة الحاسوبية وفق قانون مور، أصبح إستخدام تقنيات التعلم العميق والشبكات العصبية خياراً وحيداً لا مناص عنه. فالذكاء الإصطناعي المعزز للتعليم هو خدمة وصناعة تغطي ثلاثة مجالات: التعلم باستخدام الذكاء الإصطناعي، تعليم الذكاء الإصطناعي والتعلم التفاعلي بين الإنسان (المستخدم النهائي) والذكاء الإصطناعي.

ويستخدم الذكاء الإصطناعي التوليدي في بيئات التعلم الحديثة والمتطورة من أجل تطوير بيئات تعلم إستكشافية وتعاونية وجماعية باستخدام نظم وتقنيات وأدوات وبرامج رقمية مبتكرة وروبوتات ذكية ودمج الواقع الإفتراضي (VR) والواقع المعزّز (AR) بالعملية التعليمية.  كما تقدم بيئات التعلم الإبتكارية الحديثة تطبيقات متنوعة للشبكات العصبية العميقة (DNN) والشبكات العصبية المتكررة (RNN) المستخدمة في نمذجة اللغات الطبيعية، والشبكات العصبية التلافيفية التي تعالج البيانات المتقدفقة بشكل مصفوفات متعددة المستويات والأبعاد والتي تستخدم على سبيل المثال لا الحصر في إنتاج الصور ثلاثية الأبعاد، بالإضافة الى شبكات الخصومة التوليدية (GANs) التي تستخدم في ألعاب التعلم وغيرها من التطبيقات.

3 -إشكاليات الأنسنة في التعليم الإبتكاري والذكاء الإصطناعي :

قبل مقاربة الأنسنة في التعليم الإبتكاري المعزز بتكنولوجيا الذكاء الإصطناعي التوليدي لا بد لنا من القول أن التكنولوجيا الرقمية الذكية بصفة عامة والذكاء الإصطناعي على وجه الخصوص ليست مجرد أدوات أو وسائل تقنية، وإن القول السائد بأن التكنولوجيا الرقمية إنما هي أدوات لا أكثر هو قول مُبْتسَر وسطحي يعبر عن نظرة أداتية ضيقة.  فالتكنولوجيا الرقمية ومنها الذكاء الإصطناعي هي علم الإشياء وخطاب المعرفة الذي يجب أن يُدرسَ من خلال ثلاثة مداخل أساسية هي : التكنولوجيا كأداة ووسائل، أي ما يسمى بالمنظور الأدائي الذي تحدثنا عنه آنفاً. التكنولوجيا كفاعلية ويسمى المنظور الإنتروبولوجي والتكنولوجيا كمعرفة وهو المنظور الإيبستمولوجي الأكثر أهميةً من المداخل والأبعاد الأخرى.  وفي كل الأحوال تبقى الإشكالية المعرفية التي طرحها هربرت ماركوز قائمة وفحواها «أنّ القوة المحررة للتكنولوجيا بتحول الأشياء إلى أدوات تتقلب إلى قيد على التحرر وتحول الإنسان إلى أداة».  فهل سيفضي إستخدام الذكاء الإصطناعي في التعليم إلى أنسنة التكنولوجيا أم حوسبّة الإنسان بذاتهِ أو إلى تحويل الإنسان من حيث هو قيمة عليا بذاته وليس بغيره إلى قيمة بغيرهِ.  أي بما يملك أو بما يستطيع أن يستخدم من أدوات وتقنيات الذكاء الإصطناعي.

ضمن هذا السياق، فإن الأنسنة في التعليم الإبتكاري هو التعليم ذو النزعة الإنسانية، التعليم والتعلم بسماته المميزة لهُ من تعاطف وشغف معرفي وروح إيجابية تُعنى بإنسانية المتعلم بغض النظر عن جنسهِ ولونه ودينه وقوميتهِ وجذوره وقدراته.  تعليم يهتم بالتحفيز والتمكين وإلهام المتعلمْ وينبذ التعصب والإكراهات من أين جائت. تعليم يحترم التنوع الثقافي والديني والقومي والحضاري، ويُحفزْ العمل التطوعي وينشُد توفير بيئة خالية من العنف والكراهية والتعصب والقسوة، تعليم ينشد السِلم الأهلي ويؤسس لثقافة السِلم وينبذ كل أنماط العنف (المادي والرمزي) .

     وتُعنى الأنسنة في التعليم ببناء منهاج دراسي يحترم الخصوصيات والهويات ويؤسس للهوية الوطنية الجامعة والإنتماء الحضاري ويهتم بالتفكير الإيجابي والتنمية المستدامة والمجتمع المستدام إقتصاداً وإنتاجاً وإبتكاراً مثلما يهتم بتبّيئة التكنولوجيا الرقمية والذكاء الإصطناعي وكل أشكال المشاريع الريادية.

هذا الفهم لأنسنة التعليم وأنسنة الذكاء الإصطناعي يتطلب حوكمة رشيدة وإستراتيجيات تعليمية مبتكرة وسياسات فاعلة لحل إشكاليات التعليم التقليدي وتحديات الذكاء الإصطناعي الكبيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر مخاطر أن يصبح الذكاء الإصطناعي التوليدي أكبر سرقة أدبية عالية التقنية وطريقة لتجنب التعلم كما يقول عالـــــــــم اللسانيات نعوم تشــــومسكي.

 أو أن يفضي الذكاء الإصطناعي الى التزييف العميق أو النقص في فهم العالم الحقيقي، أو ان يكون للذكاء الإصطناعي دور (الأخ الأكبر) في رواية جورج أورويل 1984 ، وهو الإسم الذي يرمز الى شرور التوليتاريا (النظام الشمولي). لذلك وبغض النظر عن هذه المخاطر وغيرها فإن فرص أن يتبادل الذكاء الإصطناعي وظائف وأدوار الأنسنة مع عملية التعلم وبما يعزز القدرات الإنسانية ويبني نماذج تعلم مبتكرة معزّزة بذكاء التكنولوجيا الرقمية والحوسبة السحابية والحوسبة الإجتماعية والحكمة الجماعية Crowd Wisdom في التعليم والبحث العلمي هو أمر ممكن إذا توافرت حوكمة رشيدة للذكاء الإصطناعي .

خلاصة وإستنتاجات

قد تبدو هذه الورقة السجالية حالمة في ظل ما نعرف عن أوضاع العراق وأزماته البنيوية والتحديات الجيوسياسية التي يواجهها ونحن من ناحية منطقية ومنهجية نعلم أن الحديث عن التعليم الإبتكاري في ظل الأنسنة والذكاء الإصطناعي التوليدي يجب أن يؤسس على عقد اجتماعي جديد للعراق يقدم أجوبة عن مستقبل الوطن والهوية والمواطنة والتنمية المستدامة والسلام المستدام وفرص النهوض من جديد ، ومع ذلك تحاول هذه الورقة البحثية السجالية أن نستأنف الحديث  حول التحديث والتأصيل ، تحديث التعليم والإبتكار وصياغة استراتيجية وطنية شاملة للتعليم والبحث العلمي والإبتكار واستراتيجية من أجل العراق الرقمي وفي سبيل تطبيق الذكاء المُحسّنْ المتكافل مع الذكاء الإنساني.

 وأما التأصيل فيعني أن يتجذر التعليم في تراثنا وتاريخنا فيغرف من كنوز أُمتنا وقيمنا ، أي ان يستلهم التعليم الإبتكاري من تاريخية وجدلية إبن خلدون، وعقلانية إبن رشد وأصولية الشاطبي وتجريبية إبن الهيثم ومنطق الفارابي وإبن سينا وإبن طفيل ورياضيات الخوارزمي وغيرهم مثلما ينشد مناهج العلم ومتونه وتقنياته الحديثة في أرقى حلقاتها .

 ذلك أن تجديد العقول في كل حقول العلم والمعرفة والتكنولوجيا وتأصيل الأصول هو شرط موضوعي وتاريخي للنهضة الحضارية قدمت هذه الورقة البحثية في موتمر كرسي اليونسكو لجامعة الموصل عن الامن التعليمي بتاريخ 11/2/2024

 عميد  كلية الاعمال -  جامعة الزيتونة الاردنية


مشاهدات 388
الكاتب سعد غالب ياسين
أضيف 2024/05/25 - 12:15 AM
آخر تحديث 2024/07/18 - 9:20 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 258 الشهر 7826 الكلي 9369898
الوقت الآن
الخميس 2024/7/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير