سلسلة مراقد المتصوفة والزهاد
الشبلي يترك دار الخلافة ويفرّ للتصوّف والزهد
صلاح عبد الرزاق
هو أبو بكر الشبلي البغدادي المعروف بالشِّبلي الصالح المشهور الخراساني الأصل السامرائي المولد والبغدادي المنشأ ، كان جليل القدر مالكي المذهب ، وصحب الشيخ أبا القاسم الجنيد والحسين الحلاج.
الأسرة
اسمه دُلَف بن جَحْدَر وقيل جعفر بن يونس. ولد في قرية شّبلة من توابع أسروشنة وهي بلدة كبيرة وراء سمرقند من بلاد ما وراء النهر . وهو إيراني ، ويقال أنه تركي الأصل . ولد عام ( ٢٤٧ هـ / ٨٦١ م) ، وتوفي في عام ( ٣٣٤ هـ / ٩٤٥ م).
سامراء العاصمة الثانية في العراق
نشأ الشبلي في العصر العباسي الثاني بعد انتقال العاصمة العباسية من بغداد إلى سامراء التي تبعد ١٢٥ كم شمال بغداد بعد أن ضج أهالي بغداد من كثرة وسلوك الجنود الأتراك الذين استعان بهم الخليفة لتدعيم حكمه. أنشأها الخليفة المعتصم بالله سنة ( ٢٢١ هـ / ٨٣٥ م) ونقل إليها دواوين الدولة ومعسكرات الجند ، وبنى قصوراً لأسرته وأمراء الجيش. وفي سنة ( ٢٤٥ هـ / ٨٥٩ م) أنشأ المتوكل العباسي مدينة المتوكلية وشيد الجامع الكبير ومئذنته الملوية الشهيرة. بقيت مدينة سامراء عاصمة للخلافة العباسية فترة تقرب من 5٧ عاما، تمتد من سنة (22١ هـ/83٥ م) إلى سنة (279 هـ/892 م) ، ثم عادت إلى بغداد. في تلك الفترة شهدت سامراء عدة أحداث سياسية وأمنية. فقد قام الخليفة المتوكل العباسي بجلب الإمام العاشر للشيعة الإمام علي الهادي (٢١٢ -٢٥٤ هـ / ٨٢٧- ٨٦٨ م) من المدينة المنورة إلى سامراء ووضعه في الإقامة الإجبارية في منزله تحسباً من حدوث أية حركة مناوئة للسلطة العباسية.
وقد كتب المتوكل إلى الإمام علي الهادي (ع) رسالة جاء فيها:
(فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولى من الحرب والصلاة بمدينة الرسول إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك، واستخفافه بقدرك، وعندما قرنك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيتك وبرّك وقولك وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك. وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إلى وجهك).
وعندما نزل الإمام الهادي (ع) ومعه ابنه الحسن (ع) مدينة سامراء أسكنه المتوكل في خان الصعاليك لمدة ثلاثة أيام، قبل أن يدخل عليه. والمتوكل العباسي المعروف بشدَّة بطشه وبغضه لأهل البيت الفاطميين، أراد أن يبقي علي الهادي قريباً منه حتى يسهل عليه القضاء عليه أنى شاء. إلا أنه أخذ ينفذ إلى عمق سلطته، ويمد نفوذه إلى المقربين من أنصار المتوكل.
قتل الإمام الهادي (ع) مسموماً على يد الخليفة العباسي محمد المعتز بالله وفارق الحياة يوم الإثنين الثالث من رجب سنة ( 254 هـ / ٨٦٨ م) ودفن في داره بسامراء عن عمر يناهز 42 سنة.
ولم يقتصر الإمام على احتجاز الإمام الهادي (ع) بل تم حجز ولده الإمام الحسن العسكري (٢٣٢- ٢٦٠ هـ / ٨٤٧- ٨٧٤م ) في منزله الذي كان يقع في محلة العسكر وهي حي يسكنه كبار ضباط الجيش وتتم مراقبة بيت الإمام من الخارج والداخل حيث دست السلطة العباسية جواسيس من الغلمان والجواري وإطلاع السلطة على ما يحدث داخل الدار. ولما توفي الإمام الحسن العسكري مسموماً سنة ( ٢٦٠ هـ / ٨٧٤ م) من قبل الخليفة المعتمد ، دُفن بجوار والده في سامراء. كما دفنت معه زوجته السيدة نرجس وهي أم الإمام المهدي المنتظر (ع). وتضم العتبة العسكرية اليوم هذه الأضرحة.
نشأته
تشير المصادر إلى أن الشبلي قد ولد في سامراء ، وعنيت أسرته بتعليمه على أفضل مستوى ، فدرس اللغة العربية والعلوم الإسلامية والحديث والفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس ، فحفظ كتاب (الموطأ) وحفظ القرآن الكريم. كان ينتمي إلى أسرة خراسانية ذات مكانة اجتماعية مرموقة. إذ كان والده يعمل حاجباً للخليفة الموفق ، وخاله كان أميراً في الإسكندرية. نشأ مع أولاد الأمراء والوزراء ، وانخرط في وظيفة في البلاط العباسي. وحظي بالنعم الوافرة من الأمراء. وكان والده ذا صفة مرموقة في دار الخلافة مكنته من العيش قرب البلاط ، وهيأت لابنه دلف أن يحظى بصحبة كبار القوم. الأمر الذي جعله يحظى بمنصب الحاجب ثم يعّين أميراً على (دماوند) من توابع طبرستان. وكان أبوه من كبار حجاب الخلافة ، وولي هو منصب حاجب المفوض بالخلافة (الوصي على العرش) الموفق بالله (٢٢٩-٢٧٨ هـ / ٨٤٣- ٨٩١م) وكان قائد جيوش أخيه الخليفة المعتمد على الله الذي كان خليفة اسماً .(١) وكان الموفق قد بعث الحياة في الخلافة العباسية بعد أن أشرفت على السقوط بسبب حالة الفوضى التي سادت على يد الأتراك بين عامي ٢٤٧-٢٥٦ هـ / بعد مقتل الخليفة المتوكل واستبداد قادة الجيش وضباطه الاتراك وقتلهم للخلفاء المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي. واستقلال أمراء الأطراف بولاياتهم كالصفاريين في المشرق والطولونيين في مصر. ولولا ثورة الزنج على القادة الأتراك واحساسهم ان الخطر سيحيق بهم لانتهى أمر الدولة إلى الانحلال والزوال. وقد قضى الموفق على ثورة الزنج وهزم الصفاريين.
في تلك الفترة المضطربة كان الشبلي يرى المظالم في عمله والسعايات والوشايات بين الحكام بالباطل فيؤلمه ذلك، ولا يوافق هواه ونزعته الشاعرية، وأحس بقيود الوظيفة، وأراد خلعها لأنه يرى مصيره سيئا في الدنيا والآخرة إذا أستمر بالعمل مع هؤلاء المتكالبين على الدنيا، والتقى بالرجل الصالح (خير النساج) وهو أبو الحسن محمد بن إسماعيل توفي (عام ٣٢٢ هـ/ ) وكان من مشاهير الوعاظ في عصره، ووجهه نحو الجنيد البغدادي (٢١٥- ٢٩٨ هـ/ ٨٣٠- ٩١٠ م). التقى الشبلي بالجنيد البغدادي فرحب به الجنيد وأكرمه وحبّب إليه العبادات والتصوف والانصراف عن الدنيا، وأن لا يجعلها كل همه. وقد صحب الجنيد سنوات طويلة . وكان الشبلي قد جزع من العمل أميرا عند الولاة وقرر الاستقالة من عمله. فطلب منه الجنيد أن يعود إلى وظيفته ويسترضي الناس، فرجع الشبلي لعمله واقام فيها سنة، يسترضي خلالها الناس، فقال لأهلها: كنت والي بلدكم فاجعلوني في حل. (٢) ثم عاد إلى بغداد، وسلك سبيل التصوف. وقد أخذ العلم على يد علماء عصره وخدم الحديث الشريف، وغلبت عليه نزعة الزهد، والتعلق بالتصوف، وكان يعرف الزهد بقوله: (تحول القلوب من الأشياء إلى رب الأشياء).
وظهرت على الشبلي حالات من الجذب والشطح والغيبوبة التي كان بعض المتصوفة يصطنعوها خوفاً من الحكام والولاة وصرح بجنونه مرة بعد المحنة التي حلت بصاحبه الحسين الحلاج وإعدامه سنة (309هـ، / 922م)، بقوله: أنا والحلاج شر واحد، فخلصني جنوني وأهلكه عقله. ويبدو أن الشبلي كان يتقن دوره بكفاءة عالية في افتعال الجنون ويأتي من الشطحات ما يقنع الآخرين أنه مجنون فعلاً، وكان يشاهد على الدوام يحرق الطعام ويمزق الملابس في أزقة بغداد فيعاتبه أصحابه على هذا فيقول (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ) ، فهذه الأطعمة والملابس والشهوات حقيقة الخلق ومعبودهم، أبرأ منها وأحرقه!
قال عنه الذهبي: كان فقيهاً عارفاً بمذهب مالك ، وكتب الحديث عن طائفة. وقال الشعر ، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن ، لكنه كتن يحصل له جفاف دماغ وسكر ، فيقول أشياء يُعتذر عنه فيها فخر ولا تكون قدوة. (٣)
وذكر صاحب (تذكرة الأولياء) الشبلي فقال: وقع منه بعض شطحات فنسبوه إلى الجنون ، وحُبس اثنتين وعشرين مرة في (البيمارخانة). (٤) لكن صاحب العقد اللامع يرى أن الشبلي لم يكن مجنوناً بل يتظاهر به فيقول: وكان كثيراً ما يستتر بالجنون عن غير أهل طريقته حتى حُبس مرات عديدة في البيمارستان (المستشفى). (٥)
توفي الشيخ الشبلي ليلة السبت ( 27 ذو الحجة 334 هـ/ 30 تموز 946م)، ودفن ضحى في مقبرة الخيزران، وقبره ظاهر يزار وعليهِ قبة، ودفن إلى جواره بعض طلابه ومحبيه. (٦)
أخباره وأقواله
-قال السلمي : سمعت محمد بن الحسن ، سمعت الشبلي ، يقول : أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه ، وغرق سبعين قمطرا بخطه ، في دجلة التي ترون ، وحفظ " الموطأ " ، وتلا بكذا وكذا قراءة -يعني : نفسه .
-وسئل : ما علامة العارف ؟ قال : صدره مشروح ، وقلبه مجروح ، وجسمه مطروح .
- سمعت عمر البناء المزوق البغدادي – بمكة- يقول : سمعت الشبلي يقول : ليس من احتجب بالخلق عن الحق ، كمن احتجب بالحق عن الخلق وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه كمن جذبته أنوار رحمته إلى مغفرته .
- سمعت محمد بن علي بن حبيش يقول : أدخل الشبلي دار المرضى ليعالج فدخل عليه علي بن عيسى الوزير عائدا فأقبل على الوزير فقال : ما فعل ربك ؟ فقال الوزير : في السماء يقضي ويمضي ، فقال : سألتك عن الرب الذي تعبده لا عن الرب الذي لا تعبده - يريد الخليفة المقتدر - فقال علي لبعض حاضريه : ناظره ، فقال الرجل : يا أبا بكر سمعتك تقول في حال صحتك : كل صديق بلا معجزة كذاب ، وأنت صديق فما معجزتك ؟ قال : معجزتي أن تعرض خاطري في حال صحوي على خاطري في حال سكري فلا يخرجان عن موافقة الله تعالى .
- أنشدنا محمد بن إبراهيم بن أحمد ، قال : أنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد الحزبي ، قال : سمعت الشبلي كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين :
والهجر لو سكن الجنان تحولت *** نعم الجنان على العبيد جحيما
والوصل لو سكن الجحيم تحولت *** حر السعير على العباد نعيما
- سمعت محمد بن إبراهيم يقول : سمعت الشبلي يقول : وقفت بعرفة فطالبت الوقت فما رأيت أحدا له في التوحيد نفس ، ثم رحمتهم فقلت : يا سيدي إن منعتهم إرادتك فيهم فلا تمنعهم مناهم منك .
سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد المخرمي يقول : سمعت الشبلي وسئل عن قول الله ( ادعوني أستجب لكم ) قال : ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة .
- سمعت محمد بن إبراهيم يقول : سمعت الشبلي يقول : اشتغل الناس بالحروف ، واشتغل أهل الحق بالحدود ، فمن اشتغل بالحروف اشتغل بها خشية الغلبة ، ومن اشتغل بالحدود اشتغل بها خشية الفضيحة
- سمعت أبا نصر النيسابوري يقول : سمعت أبا علي أحمد بن محمد يقول : سمعت الشبلي يقول : قوم أصحاء جئتم إلى مجنون ، أي فائدة لكم في ؟ أدخلت المارستان كذا وكذا مرة ، وأسقيت من الدواء كذا وكذا دواء ، فلم أزدد إلا جنونا .
- سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب الوراق يقول : سمعت الشبلي وسئل عن المحبة ، فقال : المحبة الفراغ للحبيب ، وترك الاعتراض على الرقيب .
-وسمعته يقول : إذا ظننت أني فقدت فحينئذ قد وجدت ، وإذا ظننت أني وجدت فهناك فقدت قال : وسمعته يقول : صراط الأولياء المحبة ، وقال : المحبة الكاملة أن تحبه من قبله ، وقال : من أحب الله من قبل بر الله فهو مشرك .
- سمعت أحمد بن محمد النهاوندي يقول : مات للشبلي ابن كان اسمه غالبا ، فجزت أمه شعرها عليه ، وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلق الجميع ، فقيل له : يا أستاذ ما حملك على هذا ؟ فقال : جزت هذه شعرها على مفقود ، فكيف لا أحلق لحيتي أنا على موجود ؟ .
- سمعت أحمد يقول : حضرت الشبلي وسئل عن قول بعضهم : لا تغرنكم هذه القبور وهدوها فكم من فرح مسرور ، وداع بالويل والثبور ، فقال : أيما هي القبور عندك ؟ قال : قبور الأموات ، فقال : لا بل أنتم القبور : كل واحد منكم مدفون ، فالمعرض عن الله داع بالويل والثبور ، والمقبل على الله الفرح المسرور ، ثم أنشأ يقول :
قبور الورى تحت التراب وللهوى *** رجال لهم تحت الثياب قبور
فقلت له : يا سيدي ونعد في الموتى ؟ فقال :
يحبك قلبي ما حييت فإن أمت*** يحبك عظم في التراب رميم
-روي أن الشبلي كان لديه سمنة في بدنه فقيل له: قد سمنت ، والعشق والمحبة الإلهية تقتضي الهزال فقال مجيباً:
أحب قلبي وما درى بدني***ولو درى ما أقام في السمن
-سمع يوماً من ينادي في السوق: الخيار عشرة بدرهم، فقال: إذا كان الخيار عشرة بدرهم (يقصد الناس الأخيار) ، فالأشرار عشرة بدانق. (٧)
مرقد الشبلي
يصفه صاحب (العقد اللامع) المتوفى عام ١٩٣٠ فيقول: يقع مرقده داخل مقبرة الخيزران قريباً من جامع أبو حنيفة النعمان. وفيه مسجد صغير تُصلى فيه الصلوات في بعض الأوقات. وفيه إمام خُصّص له راتب من دائرة الأوقاف. وفي فناء هذا المسجد جُنينة صغيرة زاهية فيها أنواع الأوراد والأزهار.
وبعد انهدام هذا المسجد عمّره صاحب الخيرات الميرالاي شريف بك ، وبنى على قبره قبة عُقدت بالحجارة والجص، وقُدّام الحجرة طارمة. وعند إكمال تعميره حرر تاريخه على رخامة وضعت على باب المرقد وهذا نص الكتابة بالتركية:
(زينت افزاي مقام مولاي خلافت إسلامية بري سلطنت سنيه عثمانية السلطان بن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان ، حضرتلرينك اشبو مرقد شريف اوجيوز أول طقوز سنة هجرية سي رمضان شريفندة تعمير ايد المشدر ١٣١٩ هـ).
وقد دفن سعيد غلام الشبلي بقرب قبره. وفي فناء هذا المسجد قبور كثير من العلماء والوجهاء والتجار. (٨)
ويعلق د. عماد عبد السلام رؤوف على ما ورد في هذا اللوح فيقول:
(١٣١٩ توافق كانون الأول ١٩٠١ ، ويلاحظ أن تاريخ هذا التعمير يلي بسنة واحدة تعميره بأمر قاضي بغداد الحاج مصطفى جلبي زاده. وقد كان ثمة شاهد بالعربية يؤرخ هذا التعمير نصه:
هذا مرقد قطب العارفين السيد جعفر بن يونس الشبلي قدس الله روحه. توفي في شهر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. قد عمره حبه لله الكريم ، فخر العلماء الكرام الجلبي زاده السيد الحاج مصطفى أفندي القاضي ببغداد دار السلام في سنة ١٣١٨ هـ). وقد انتزع هذا الشاهد عند تجديد المرقد عام ١٩٦٢ . (٩)
وقد تعرض المرقد لسقوط سقفه عام ١٩٥٥ وتم تجديد بناءه من قبل الحاج محمود الكبيسي. وعلى اثر ذلك التعمير أصبح المصلى مغلق الجوانب على شكل قاعة مستطيلة مسقفة بالسمنت والحديد بدل الخشب.
وثمة صيانة أخرى للضريح عام ١٩٦٣ والتي قام بها الشيخ طه الكويلي الأعظمي الذي جمع تبرعات من المحسنين حققت هذا الهدف. وقد أهدى أحد الزوار الهنود للقبر قفصاً من الحديد ، وألبسه لباساً أخضر وفوق رأسه عمامة خضراء. وهناك تجديد آخر تم عام ١٩٩٦ قام به الحاج مصطفى ياسين الكبيسي.
وقد زار المرقد عدد من الشخصيات مثل أبو عبد الرحمن السلمي (توفي عام ٤١٢ هـ / ١٠٢١ م). وزاره الرحالة أبو الحسن علي الهروي (توفي عام ٦١١ هـ / ١٢١٥م)، وابن جبير الاندلسي (توفي عام ٦١٣ هـ / ١٢١٦ م) ، وابن بطوطة (توفي عام ٧٧٩ هـ / ١٣٧٨ م). كما زاره السلطان سليمان القانوني بعد دخوله بغداد عام (٩٤١ هـ / ١٥٣٤ م).
زيارتي لمرقد الشبلي
في ١٦ كانون الثاني ٢٠٢٤ قمت بزيارة مرقد الشيخ أبو بكر الشبلي ، وكان معي الباحث التراثي ياسر العبيدي. دخلنا المرقد من زقاق مجاور لمقبرة الخيزران الواسعة. الدخول إلى المرقد يستلزم صعود سلم حديدي يؤدي إلى طارمة ثم باب المرقد. إذ يقع المرقد على ربوة تشرف على القبور المجاورة.
تم ترميم المرقد عام ٢٠١٢ من قبل ديوان الوقف السني. البناء من الطابوق والجص . تعلو المرقد قبة مطلية باللون الأخضر ، يعلوها ميل نحاسي ، وعلم أخضر. ويحيط بالقبة سياج حديدي لمنع السقوط إلى الأسفل. توجد بالقبة عدة نوافذ للإضاءة والتهوية. وتتدلى ثريا من السقف وفوق الشباك.
في جانب من المرقد يقوم شباك خشبي بسيط الصنع ، شاهدت أسفله لوح رخامي كتب عليه (بسم الله الرحمن الرحيم ، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الشيخ أبو بكر الشبلي رضي الله عنه). كما شاهدت لوحاً رخامياً أصغر حجماً كتب عليه (مرقد الشيخ أبو بكر الشبلي).
وتوجد ستارة من القطيفة الخضراء ، وهي هدية من الهند ، يُغطى بها الشباك مكتوب في أركانها : (يا علي مولا) و (يا فاطمة الزهراء) و( يا حسن مولا) و(يا حسين مولا) (هكذا كتبت) عليهم السلام. وفي الوسط كتب (الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله. أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمد (اً) رسول الله ، وأشهد أن علي (اً) ولي الله ووصي رسول الله والخليفة لأمته. صلوا عليه وآله وسلموا تسليماً). كما توجد ستارة حمراء على الشباك وهي هدية من جنوب أفريقيا.
وتوجد آلات الدفوف واسعة الحجم مصنوعة من الجلد ، إضافة إلى عصا سوداء ذات مقبض ذهبي مسندة على شباك الضريح. وهي من لوازم حلقات الذكر الصوفية التي تقام في المرقد. وهذه الدفوف هدية من الهند. كما توجد لوحة مطرزة تضم السلسلة القادرية وهي هدية من الباكستان.
وشاهدت اللوح القديم المكتوب باللغة التركية المؤرخ في ١٣١٩ هـ وقد ذكرنا ما كتب فيه آنفاً وترجمته إلى العربية. اللوح ذو أرضية خضراء ، والكتابة باللون الأصفر. كما شاهدت اللوح المكتوب باللغة العربية والمؤرخ في عام ١٣١٨ هـ ، والذي كُتب خطأ ١٢١٨ هـ !
تم تغليف المرقد من الداخل بالمرمر الأخضر في القسم العلوي ، وبالحجر الأبيض في القسم السفلي من الجدران. وقد شاهدت سقوط جانب من الحجر من الجدار.
شاهدت وجود أسماء أصحاب الكساء من أهل البيت عليهم السلام وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين على أعلى الجدران.
توجد لوحة من الرخام الأبيض معلقة على الجدار كتب عليها:
(بسم الله الرحمن الرحيم
هنا مرقد قطب العارفين الولي الصالح الشيخ الزاهد أبو بكر دلف بن جعفر بن يونس الشبلي.
خراساني الأصل ، ولد في سامراء عام ٢٤٧ هجرية ، وعاش في بغداد. وكان تلميذاً مجتهداً عند الشيخ جنيد البغدادي (قدس سره). وقد توفي في بغداد شهر ذي الحجة عام ٣٣٤ هجرية.
ومن كراماته وأقوال المشايخ في حقه:
قال الجنيد / لا تنظروا إلى أبو بكر الشبلي بالعين التي ينظر بعظكم إلى بعض فإنه عين من عيون الله.
وقال/ لكل قوم تاج ، وتاج هذا القوم الشبلي.
وكان يكتحل بالملح كي لا ينام ليعتاد السهر وعبادة الله عز وجل.
خادم المرقد جمال الشبلي ).
وفي زاوية من المرقد يوجد قبر مغطى بالرخام الأبيض ، يرتفع حوالي (٢٥) سم عن الأرض. وقد كتب على لوح بجانبه (الشيخ سعيد خادم الشيخ أبو بكر الشبلي رض الله عنه).
زيارتي لمقبرة الخيزران القديمة
وهي من المقابر القديمة في بغداد ، وقد سميت بالخيزران نسبة إلى الخيزران بنت عطاء زوجة الخليفة المهدي ووالدة هارون الرشيد ، وقد دُفنت فيها عام ١٧٣ هـ / ) .
وتُعرف اليوم بمقبرة الامام الأعظم نسبة إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت الذي دُفن فيها عام (١٥٠ هـ / ). كما تُعرف بمقبرة الأعظمية.
وبسبب قدمها وجوارها من مرقد الإمام أبي حنيفة فقد تم دفن كبار الأولياء والعلماء والسياسيين والولاة والشعراء والأدباء. ويقال أن أقدم من دفن فيها من العلماء هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام وذلك في سنة (١٤٦ هـ / ) وقد صلى عليه الخليفة أبو جعفر المنصور. وأول من دُفن فيها من القواد والأشراف محمد بن اسحق صاحب كتاب المغازي في سنة (١٥١ هـ / ) ثم البانوقة بنت المهدي سنة (١٦١ هـ / ) وبعدها دُفنت الخيزران عام (١٧٣ هـ / ).
وقد دلت الشواهد الأثرية التي عُثر عليها في الحفريات العميقة التي أجريت أثناء توسيع المسجد عام ١٩٧٢ على أنها مقبرة قديمة كانت تعود للمجوس قبل بناء بغداد ، كما ذكر الخطيب البغدادي. (١٠) إذ تم العثور على توابيت فخارية استخدمت لدفن الموتى. وقد تم نقلها في حينها إلى المتحف العراقي.(١١)
وفي العهد العثماني صارت المقبرة مكاناً لدفن عدد من الولاة وكبار رجال الإدارة وقادة الجيش مثل حسن باشا الذي مات في كرمنشاه سنة (١١٣٦ هـ / ١٧٢٣ م) ونُقل جثمانه إلى بغداد ليُدفن بجوان النعمان ، ومن بعده ابنه أحمد باشا في سنة (١١٦٠ هـ / ١٧٤٧ م). كما دُفن فيها سليمان باشا أبو ليلة المتوفى سنة (١١٧٥ هـ / ١٧٦١ م) مؤسس حكم المماليك في العراق. وكذلك سليمان باشا الكبير المتوفى سنة (١٢١٧ هـ / ١٨٠٢ م). وكثير من القبور درست أو تهدمت بسبب توسعة الجامع وصحنه ، وإقامة أبنية حديثة تابعة لكلية الإمام الأعظم. ولم تبق من تلك القبور إلا قليلة مثل قبر والي بغداد محمد باشا الكوزلكي المتوفى سنة (١٢٧٣ هـ / ١٨٥٧ م) ومحمد فاضل الداغستاني المتوفى عام (١٣٣٤ هـ / ١٩١٦ م). (١٢)
وقد شاهدت عدداً من القبور منها:
١-الشاعر جميل صدقي الزهاوي. وقد (تمت صيانته من قبل الهيئة العامة للآثار والتراث سنة ٢٠٠١). وقد كتب على الشاهد (ولد في عام ١٨٦٣ وتوفي في عام ١٩٣٦ م).
٢- الشاعر معروف الرصافي المتوفى عام ١٩٤٥ ، حيث كتب عليه هذان البيتان:
أنا ابن دجلة معروفاً بها أدبي *** وأن يك الماء منها ليس يرويني
قد كنت بلبها الغريد أنشدها *** أشجى الأناشيد في أشجى التلاحين.
ثم كتب (وقد قام بتجديد قبره السيد محمود سلطان)
٣-النحات جواد سليم المتوفى في ٢٣ كانون الثاني ١٩٦١
٤- مفتي بغداد الشيخ أمجد الزهاوي المتوفى عام ١٩٦٧
٥- مقبرة آل بابان منهم آخر رئيس وزراء في العهد الملكي أحمد مختار بابان المتوفى عام ١٩٧٦
٦-رئيس الوزراء جميل المدفعي المتوفى عام ١٩٥٨
الهوامش
١-شمس الدين الذهبي (سير أعلام النبلاء) ، ج ١٥ ، ص ٣٦٧
٢- ابن خلكان (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ) ، ج ٢ ، ص ٢٧٣
٣- الذهبي ، مصدر سابق ، ج ١٥ ، ص ٣٦٧
٤- مرتضى نظمي زاده البغدادي (تذكرة الأولياء) ، ص ٢٥٢
٥- عبد الحميد عبادة (العقد اللامع بآثار بغداد والمساجد والجوامع) ، ص ٥١
٦- يونس إبراهيم السامرائي (مراقد بغداد) ، ص ٣٦ ، مكتبة الشرق الجديد ، بغداد
٧- مرتضى نظمي زاده ، مصدر سابق ، ص ٢٥٤
٨- عبد الحميد عبادة ، مصدر سابق، ص ٥٠
٩- عبد الحميد عبادة ، مصدر سابق، ص ٥١
١٠- الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد) ، ج ١ ، ص ٤٤٨
١١- سعدي إبراهيم الدراجي (الآثار في مقابر بغداد) ، ج ١ ، ص ١٩٦
١٢- سعدي إبراهيم الدراجي ، مصدر سابق ، ص ١٩٨