سلسلة أبنية تراثية بغدادية.. المدرسة الجعفرية رائدة التعليم الأهلي في العراق
صلاح عبد الرزاق
ظروف التأسيس
في ظل الحكم العثماني لم يحض العراق بالتعليم إلا في منتصف القرن التاسع عشر. ورغم أن تأسيس المدارس الحكومية قد بدأ عام 1840 في تركيا لكنه لم يبدآ في العراق إلا في عام 1870. فقد أدركت الإدارة العثمانية في بغداد حاجتها إلى كوادر متعلمة للعمل في الدوائر المدنية والعسكرية.
ففي ذلك العام أمر والي بغداد مدحت باشا بفتح أول مدرسة صنائع لأيتام المسلمين يتعلمون فيها النجارة والحدادة والطباعة والنسيج وغيرها ، وظلت المدرسة قائمة حتى عام 1917 بدخول الانكليز بغداد. كما تم إنشاء المدرسة الرشدية العسكرية لتخريج عناصر جيش وشرطة ، ومن يتفوق منهم يتم إرساله إلى الكلية الحربية في إسطنبول ليتخرج ضابطاً.
كانت مدارس الكتاتيب (الابتدائية) والمدارس الدينية الملحقة في المساجد هي البديل للعراقيين لتعليم أولادهم. ففي عام 1890 كانت في بغداد (137) كتاتيب وفي الموصل (96) كتاتيب وفي البصرة (54) كتاتيب. وكان خريجو الكتاتيب يُقبلون في المدارس الرشدية التي كانت بمثابة المدارس المتوسطة. لذلك لم يكن أمام العراقيين سوى المبادرة لتأسيس مدارس على نفقتهم الخاصة تتولى تعليم أبنائهم.
في عام 1889 شيدت ايام الوالي (سري باشا) أول مدرسة ابتدائية في منطقة الفضل التي كان ابناؤها محرومين من ارتشاف العلم. فتبرع العلامة (عبد الوهاب النائب) ببناء مدرسة من ماله. وبعد ذلك وهبها الى الحكومة لتكون تحت رعايتها، فقامت بتأثيثها وتعيين المعلمين فيها وأطلق عليها اسم (حميدية مكتبي) وأول مدير لها كان المرحوم (عبد المحسن الطائي) ثم بدل اسمها الى (مدرسة الفضل الإبتدائية).
في عام 1899 تأسست أول مدرسة بنات حديثة في بغداد في زمن الوالي نامق باشا حيث تم تأسيس مكتب للإناث يضم الدراستين الابتدائية والمتوسطة وسماها (اناث رشدية مكتبي). وعرض الوالي على مجلس ولاية بغداد موضوع تأسيس هذه المدرسة وطلب منهم اختيار البناية التي تتوفر فيها الشروط ادناه لاتخاذها مدرسة بنات:
1. أن لا تكون احدى الدور المجاورة متسلطة على المدرسة.
2. أن لا تكون شبابيكها مطلة على الطريق.
3. أن لا تكون في الدور المجاورة اشجار عالية.
وتم تعيين السيدة (أمينة شكورة خانم) معلمة أولى للمدرسة ومعها ثلاث معلمات وتم تسجيل (90) طالبة فيها في بداية الأمر. (1)
المدارس اليهودية
الأقليات اليهودية قد بادرت منذ وقت طويل بافتتاح مدارس خاصة بها. ففي عام 1832 قام اليهود بافتتاح مدارس (مدراش تلمود) و (توراة) في بغداد. وفي عام 1864 تم تأسيس مدارس الأليانس الابتدائية والمتوسطة للبنين في بغداد من قبل (جمعية الاتحاد الإسرائيلي الفرنسية). كما قامت بتأسيس مدرسة الأليانس في الحلة عام 1907. فضلاً عن تأسيس (مدرسة لورا خضوري) الابتدائية والمتوسطة عام 1892. وتم افتتاح مدرسة (رفقة نوري الابتدائية للبنات) عام 1902 في بغداد ، وفرع مدرسة الأليانس في البصرة والموصل عام 1903 ، و(مدرسة مدراش مندلي ) عام 1907 ، و (مدرسة راحيل شحمون الابتدائية للبنين) عام 1909 ، وفرع مدرسة الأليانس في العمارة عام 1910 ، وفرع مدرسة الأليانس في خانقين عام 1913 . (2)
المدارس المسيحية
في عام 1903 وصل المبشر الأمريكي جون فون آيس John Van Ess إلى البصرة ودعم نشاط البعثة التبشيرية. وبعد جولة قام بها في البصرة وأطرافها فكر بتأسيس أول مدرسة حديثة ، فمنحته السلطات العثمانية الموافقة بشرط أن تكون اللغة العربية هي لغة التدريس. وفي عام 1910 تأسست أول مدرسة أمريكية في منطقة العشار وسط البصرة. وكان كادر المدرسة من الأساتذة الأمريكان. ودخل فيهل الطلاب المسلمون واليهود والصابئة. وكان فيها قسم داخلي لسكن التلاميذ القادمين من أماكن بعيدة خارج ولاية البصرة، وهو الأول من نوعه في العراق.
ثم قامت زوجة فون آيس دوروثي فارمان Dorthy Farman بتأسيس أول مدرسة أمريكية للبنات بالتعاون مع معلمتين من أهالي البصرة.
حتى عام 1908 كان عدد المدارس الرسمية في بغداد يبلغ (54) مدرسة تضم (3910) طالباً ، من بينهما (5) مدارس للإناث تضم (300) طالبة. أما المدارس الأهلية (الإسلامية والمسيحية والأجنبية) تبلغ (21) مدرسة ، والمدارس اليهودية تبلغ (٥٨) مدرسة تضم (6676) طالباً و (2013) طالبة. يلاحظ أن عدد المدارس اليهودية أكثر من مدارس المسلمين والمسيحيين ، وعدد الطلاب اليهود ضعف عدد الطلاب المسلمين والمسيحيين معاً. (3)
لقد خرّجت المدارس اليهودية ألاف الكوادر الماهرة تجيد اللغات الأجنبية مما دعا إدارة الاحتلال البريطاني عام 1917 الاستفادة منهم في المؤسسات والدوائر الجديدة. كما ساهموا في بناء مؤسسات الدولة العراقية الحديثة ، إضافة إلى خريجي المدارس الإسلامية والمسيحية.
وكانت تلك المدارس تقوم بتخريج كوادر ماهرة تعرف اللغات الأجنبية ولديها مهارة في الأعمال الكتابية والحسابية والقانونية والترجمة. وهو ما تحتاجه الشركات والتجار والمكاتب الإدارية في إدارة أعمالها. وأمامها فرص للعمل في القطاع الخاص أو في القطاع الحكومي العثماني.
قصة السماورات
يروي السيد علي البازركان القيسي (1887- 1958) أن سبب تأسيس المدرسة الجعفرية يعود إلى حادثة يلعب السماور دوراً مؤثراً فيها. ففي عام 1908 كان الحاج سلمان أبو التمن وهو من كبار تجار بغداد قد استورد سماورات متقنة الصنع في روسيا ، جميلة الشكل، تعمل بالفحم. وكلمة سماور فارسية الأصل تعني ثلاث أشياء (فحم وماء وشاي). نفذت الكمية المستوردة بسرعة ، فأمر الحاج سلمان كاتبه اليهودي شميل سوميخ بإرسال برقية إلي الشركة واستيراد وجبة جديدة.
مر أكثر من شهر على البرقية ، وكان الحاج علي البازركان ماراً في السوق فشاهد سماورات من نفس النوع في دكان (عباس محبوب أغا) ، وكان قد طلب سماوراً من الحاج سلمان أبو التمن فاعتذر بسبب نفاذها، فأسرع إلى الحاج سلمان معاتباً لعدم إرسال واحد منها إليه قبل عرضها في السوق. استغرب الحاج سلمان من ذلك ، وأدرك بأن كاتبه اليهودي قد خانه ، واستورد لغيره.
يستمر البازركان في القول (لقد نبهتني القصة إلى خطر كبير ، إلى الاخطبوط اليهودي الذي كان ينسج حبائله حول اقتصادياتنا فقلت: يا حضرة الحاج لو كان كتبك مسلماً ، فهل كان بوسعه أنم يرتكب هذه الخيانة؟ أجابني: كلا. فقلت له: إذن يجب عليكم أن تفتحوا مدارس لتعليم اللغات الأجنبية كالإنكليزية والفرنسية والألمانية ، حتى تحصلوا على شباب تتخذونهم كتّاباً وكاتمي أسرار تجارتكم. كذلك ينبغي أن نهيئ جيلاً من المسلمين يمتهن المحاماة كي يقوموا بمراجعة المحاكم. فقال أبو التمن: بأية صورة نحصل على هؤلاء الذين ذكرتهم؟ أجبته: بفتح مدرسة !! فقال الحاج سلمان: اسكت يا علي لئلا يسمعك الناس فيعتبرونك من الكفرة الفجرة !! ). (4)
كما تدارس المجتمعون الوضع الاقتصادي الذي يهيمن عليه اليهود حتى أن الأسواق تُعطّل يوم السبت ، إضافة أن أن المحاسبين والكتّاب أغلبهم من اليهود.
خطوات التأسيس
يمضي البازركان في سرد قصة تأسيس المدرسة الجعفرية فيقول (بعد إعلان المشروطية (الدستور العثماني عام 1908) والمناداة بالحرية والعدالة والمساواة، قلت للحاج سلمان : هذا زمن الحرية ، ويجب علينا أن نجاهر بآرائنا حول فتح المدرسة المذكورة !! وافق الحاج سلمان أبو التمن على فتح المدرسة بشرط مفاتحة العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي (1846- 1915) الساكن في الكاظمية. فذهبنا إليه سوية ، وبعد جلسة قصيرة ، وقف العلامة على الفكرة والغاية من إنشاء هذه المدرسة ، فسر بها سروراً كبيراً وقال: إنها لفكرة ضرورية ، وهي ليست من الكفر بشيء ، بل هي حياة لنا ، ثم قال (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم) بالنسبة لتعلم اللسان الأجنبي. ثال قال الحبوبي (رحمه الله): من أجل أن أفحم كل من يعارض هذه الفكرة سأنزل ضيفاً على الحاج داود أبو التمن وأقابل المعارضين لإقناعهم).
الهيئة التأسيسية
ويضيف البازركان (وقد برّ بوعده فعلاً. وراجت الفكرة وأخذ يعمل لها جماعة من الوجهاء والعلماء المعروفين منهم السيد عبد الكريم الحيدري (1869 - 1944) والشيخ جواد التويج ، وكذلك جماعة من الشباب، فأصبحت الأذهان متهيأة لها.
لذلك عقد اجتماع لهذا الغرض وانتخبت هيئة تألفت من كل من:
1 -الحاج سلمان أبو التمن 2 - الشيخ شكرالله 3 - السيد عبد الكريم الحيدري 4 - جعفر الملائكة 5 - السيد جعفر السيد هاشم 6 - السيد علي مهدي البغدادي 7 - عباس أغا عليوف 8 - الحاج عبد المجيد الصفار 9 - مهدي الخاصكي 10 - الحاج محمد حسن الجوهر 11 - اسطة علي العينه چي 12 - الحاج عبد الحسين البحراني 13 - الحاج أمين الچرچفچي 14 - الحاج جودي قنبر أغا 15 - الحاج حسين علاوي 16 - الحاج حسين الشهربنلي 17 - الحاج عبد الغني كبة 18 - الحاج جعفر أبو التمن.
وتألفت الهيئة الإدارية من : الشيخ محمد مهدي البصير ، كمال قاسم مدير المدرسة وجعفر حمندي ورؤوف البحراني والحاج عبد الحسين الازري وعباس شكارة وكاظم شكارة.
إجازة افتتاح المدرسة
بعد المداولات قرر المجتمعون كتابة طلب إجازة لفتح المدرسة من والي بغداد وكالة عبدالله باشا ، فلما قرأ الطلب سأل: لماذا فتح مدرسة أهلية للجعفرية؟ وهناك مدارس حكومية كثيرة؟ فقال البازركان: لا يوجد أي جعفري في المدارس الحكومية !! التفت الوالي إلى المكتوبچي (السكرتير) وسأله عن صحة قول البازركان، فلما أجابه بالإيجاب ، وافق الوالي على منح الاجازة بشرط تسميها باسم (مكتب الترقي الجعفري العثماني). وهذا يؤكد أن سياسية العثمانيين كانت تمنع أبناء الشيعة من دخول المدارس الرسمية .
وبناء على تلك الموافقة أصدرت مديرية المعارف كتاباِ في ٥ كانون الأول 1908 جاء فيه: بناء على الطلب المقدم بالعريضة المرقمة 1328 من قبل السيد جعفر أبو التمن (1881 - 1945) والسيد علي البازركان فقد سمحت الولاية بفتح وتأسيس (مكتب الترقي الجعفري العثماني) ، وطلبت تبليغ المستدعين لمراجعتها لتلقي التعليمات بشأن ذلك. وبذلك انتهت معاملة تأسيس المدرسة.
قامت الهيئة التأسيسية باستئجار منزل الطبيب اليوناني أرسطو ، المجاور لجامع المصلوب في محلة صبابيغ الآل ، ليكون مقراً للمدرسة. وقام الحاج سلمان أبو التمن بدفع إيجار الدار من ماله الخاص ولمدة سنتين بمبلغ (20) ليرة عثمانية.
وتم افتتاح المدرسة في 17 ذي القعدة سنة 1326 هجرية المصادف 12 كانون الأول 1908 للسنة الدراسية 1908-1909. (5)
وقد أرّخ الشاعر علي مهدي البغدادي افتتاح المدرسة فأنشد:
فتية شيدوا للعلم بيتاً
انهضتم إلى المعالي حميّة
لم يرق مكتباً فأرّخ
(راق للعدل مكتب الجعفرية)
باشر التلاميذ بالدوام في 26 كانون الأول من العام نفسه، وكان عددهم (300) تلميذاً توزعوا على مختلف المراحل الدراسية التي احتوتها المدرسة (روضة ، وابتدائية ورشدية (متوسطة)).
اختارت الهيئة الشيخ شكرالله مديراً لها، وعلي البازركان معاوناً له .
تتمة الموضوع على موقع (الزمان) الالكتروني
وسلمان أبو التمن معاوناً ثانياً ، وجعفر أبو التمن أميناً للصندوق وجعفر الملائكة مديراً للواردات ، ورؤوف القطان محاسباً وعبد الحسين الأزري كاتباً ومقرراً للهيئة. وكان من أساتذة المدرسة محمد أفندي ، المسيو مهران ، السيد حسن ، محمد رضا الفتال، ملا مصطفى، عبد الستار الشيخلي، سامي خونده، نوري ثابت، الشيخ جواد الزنجاني، عزيز البغدادي، احمد مدحت، ناصر عوني.
فتوى بجواز دخول المدرسة
كانت بعض الأوساط الشيعية المتدينة تجد دخول المدارس العثمانية حراماً لأنها تفسد تدين وأخلاق أولادهم. وانسحب التحريم على كل المدارس عموماً. وهذه الظاهرة بحاجة إلى معالجة تأخذ الطريق الديني والفتوائي كما اعتادت هذا الأوساط على الاتكاء على الدين في تبرير مواقفها وسلوكها.
لذلك سعى جعفر أبو التمن لإقناع الشيعة للالتحاق بالمدرسة ، فقام بالاتصال بعدد من علماء الدين في النجف وكربلاء فتمكن من الحصول على فتاوى تجيز الالتحاق بالمدرسة الجعفري. وقد نشر رسالة بعنوان (فتوى بجواز دخول الجعفريين المكاتب للتعليم جاء فيها:
(جواز دخول أولاد الجعفرية إلى المكاتب لتعلم العلوم والمعارف واللغات المختلفة التي تمس الحاجة إلى تعليمها وتقتضي الضرورة بعدم جهلها ، مع التحفظ على القواعد الإسلامية ... لذا ان علماء المسلمين المجتهدين في النجف وكربلاء دفعاً للشبهة الواقعة في أذهان الجهلة قد كتبوا لعموم الجعفرية يحثونهم ويشوقونهم على تأسيس وتشييد هكذا مكاتب حاوية للشروط المتقدمة، وذكروا ذلك يعد أفضل الأعمال الخيرية). (٦)
بعد تلك الحملة حظيت المدرسة الجعفرية باحترام واعجاب الجمهور الشيعي فتوافد على تسجيل أبناءهم في المدرسة. كما وجدت المدرسة اهتماماً من وزير المعارف السيد هبة الدين الشهرستاني والتقى بالهيئة التأسيسية والكادر التدريسي وعدد من الشخصيات في بناية المدرسة الجعفرية في ٢ كانون الأول ١٩٢١. كما حثهم على التبرع للمدرسة الجعفرية ولمدرستي الحسينية والهاشمية الملتحقتين بها.
الأمير فيصل يزور المدرسة
في ٨ تموز ١٩٢١ زار الامير فيصل المدرسة (قبل انتخابه ملكاً) وقد اعدت المدرسة احتفالاً فخماً دعت اليه كثيراً من الرؤساء والزعماء والادباء والشعراء وعلية القوم منهم: (السيد نور الياسري، السيد علوان الياسري، السيد محمد الصدر، السيد محمد بحر العلوم، السيد عبد الكريم الحيدري، الشيخ عبد الواحد الحاج سكر، الشيخ سالم الخيون، جعفر العسكري، الشيخ محمد باقر الشبيبي، الشيخ احمد الداود، عبد المجيد الشاوي، المحامي ابراهيم ناجي، الشاعر عبد الحسين الازري، الشاعر جميل صدقي الزهاوي، الشيخ محمد مهدي البصير، الشيخ كاظم الدجيلي) وغيرهم.
القيت في الاحتفال كلمة الهيئة الادارية للمدرسة من قبل عضو الهيئة والمعلم فيها السيد رؤوف البحراني ثم القيت قصائد وكلمات عدة.. بعدها قام الشيخ محمد باقر الشبيبي واستأذن الامير على لسان الشيخ سالم الخيون للاكتتاب بالتبرع لصندوق المدرسة فتبرع الشيخ سالم بمائة ليرة ذهب والشيخ عبد الواحد بمائتي ليرة ثم توالت التبرعات حتى بلغت ثلاثة واربعين ألف روبية مع خمسمائة ليرة ذهب، وعندما جاء دور الشاعر الزهاوي انشد البيت التالي:
لاخيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق ان لم يسعد الحال
ضج الحاضرون بعاصفة من التصفيق ثم انشد الزهاوي قصيدة عامرة.. بعدها قام جعفر العسكري فأعلن انه يتبرع بثلاثة الاف روبية عنه وعن الشاعر الزهاوي.. ثم نهض الشيخ احمد الداود قائلاً: ان هذا الحفل ضم وفوداً من جميع اهل العراق فهل توافقون على البيعة للأمير فيصل ملكاً على العراق؟). فتعالت الاصوات من كل جانب (نوافق.. نبايع) هنا وقف الامير فيصل والقى خطاباً سياسياً ثم وعد بانه سيقدم هدية متواضعة لصندوق المدرسة لا يفصح عنها الان وسجل اسمه ضمن الهيئة التعليمية معلماً فيها. ارسل الامير فيصل خمسة الاف روبية تبرعاً للمدرسة. (٧)
الجدير بالذكر أن المدرسة الجعفرية شاركت في حفل الذكرى الأولى لتتويج الملك فيصل في ٢١ آب ١٩٢٢ بوفد يمثل الهيئة التدريسية ضم كلاً من صادق البصام ورؤوف البحراني وجعفر حمندي حيث قدموا التهاني إلى الملك الذي رحب بهم قائلاً: مرحباً بمدرسي المدرسة ، أنا أعتز بكم ، وأتوسم فيكم وآمل منكم أن تضاعفوا جهودكم في تربية الناشئة على الأخلاق الإسلامية المثلى أولاً وعرس العلوم النافعة ثانياً.
طلعت حرب يزور الجعفرية
عندما زار الاقتصادي المصري (طلعت حرب باشا) العراق طلب من جعفر ابو التمن ان يزور المدرسة لما سمع عنها وعن تكوينها فأقيم له استقبال كبير بدأ من شارع مدحت باشا (العبخانه) ماراً بالقاطر خانه حتى المدرسة الجعفرية. وقد زينت الحوانيت والدور على جانبي الطريق بالزينة والورود وفي باب المدرسة اصطف عشرون طالباً من طلاب المدرسة بملابسهم الموحدة يحملون الورود وقد كان لشقيقي الاكبر محمد مرهون شرف المساهمة في الاحتفال حيث القى قصيدة ترحيبية من نظم والدي (مرهون الصفار) واثناء الاحتفال وزعت الحلويات البغدادية فعلق طلعت باشا (بأنه كان من الافضل تقديم التمر العراقي بدلا من هذه الحلويات) وفي ختام الاحتفال اعلن عن تبرعه بمائة ليرة ذهب. (٨)
المدرسة الجعفرية تتوسع
اخذت المدرسة الجعفرية بالتوسع من الابتدائية والرشدية (المتوسطة) إلى الإعدادية. ففي عام ١٩٣٩ فتحت متوسطة مسائية سرعان ما تطورت لتتحول إلى إعدادية عام ١٩٤٣. في عام ١٩٤٦ افتتحت متوسطة صباحية ، أصبحت فيما بعد ثانوية كاملة. وأصبح للمدرسة ملحقات ، حيث تم افتتاح المدرسة الهاشمية وافتتح في ١٣ مايس ١٩٢٠ فرع المدرسة الحسينية. وبمناسبة افتتاح المدرسة ألقى الشاعر محمد مهدي البصير قصيدة أشاد فيها بالمدرسة جاء في مطلعها:
يا مطلع الأزهرين العلم والأدب
ردي إلينا رقي الشرق والغرب
ما أنت والله إلاّ قطب نهضتنا
وهل تدور الرحى إلاّ على القطب
توسعت المدرسة الجعفرية فافتتحت فروعاً ثانوية مسائية في الديوانية والناصرية والعمارة والكوت وبلد ، إضافة إلي ثانوية صباحية في مدينة الحي في محافظة واسط ، وسلمت إدارتها إلى مديرية المعارف.
بدأت الهيئة عملية جمع التبرعات لانشاء بناية خاصة للمدرسة بلغت (٨٠٠) ليرة ذهبية. إذ تبرع الحاج داود أبو التمن بمبلغ (٥٠) ليرة ذهبية ، والسيد جعفر السيد هاشم (٣٠) ليرة ذهبية ، وأمين الچرچفچي (٤٠) ليرة ، والحاج مهدي الخاصكي (٢٠) ليرة. وقد تم إنشاء مبنى جديداً بكلفة (٨٠٠) ليرة ذهب.
لم يجر التمييز في الطاقم التدريسي تبعاً للمذهب أو الدين، فهناك مدرس الرياضيات البارع المعلم عبد الستار الشيخلي ومعلم الجغرافيا الضابط السابق في البحرية العثمانية عمو ثابت بحرية، الذي كان يلجأ إلى مختلف الأفانين لإيصال مادته التدريسية، فتارة كان يحمل البرتقالة والشمعة لتمثيل شكل ودوران الأرض حول الشمس أو حتى يقوم بحركات تمثيلية لتحقيق الهدف.
ولم يخل طاقم المدرسة من المدرسين المبدعين مثل السيد حسين القزويني الذي شغل لفترة طويلة تدريس الرياضة والنشاطات اللاصفية وإدارة فرقة النشيد والتمثيل في المدرسة. كما تولى النحات العراقي البارز محمد الحسني، الذي كان قد تخرج تواً من معهد الفون الجميلة، تدريس مادة الرسم في المدرسة لفترة غير قصيرة إلى أن غادر العراق لإكمال دراسته في فرنسا.
كان النظام المعمول به في مدرسة الجعفرية الأهلية هو النظام الذي وضعته الهيأة التأسيسية للمدرسة سنة 1922، وظل معمولا به حتى سنة 1929م، حيث قررت الهيئة التأسيسية لهذه السنة وضع نظام خاص تصادق عليه وزارة الداخلية، وقد وافقت الوزارة عليه وطبع بمطبعة المعارف سنة 1930م .
الحقت بالمدرسة دراسة ليلية لتعليم الاميين من الحرفيين القراءة والكتابة وتدريس من يعرف القراءة والكتابة علم الحساب (مسك الدفاتر – البلانجو) واللغات الفرنسية والتركية، وقد توارد على الدراسة في المدرسة اعداد كبيرة من الحرفيين والباعة والتجار من مختلف الاعمار.
برز المربي السيد كاظم شكارة الذي كان له الفضل الكبير والخدمات الجليلة في تطور المدرسة وارتقائها اذ كان اللولب المحرك لنشاطاتها وامين صندوقها المؤتمن والامر بالصرف.. ومع ان الدراسة في المدرسة كانت باجور زهيدة شبه مجانية الا انه اعطيت للسيد كاظم صلاحية اعفاء الطلاب من الاجور.. ومن خصوصية هذه المدرسة ان ابوابها كانت مفتوحة للجميع دون استثناء بمن فيهم اخواننا المسيحيون الذين شمل الاعفاء فقراءهم.
بعد احتلال بغداد في ١١ آذار ١٩١٧ من قبل القوات البريطانية قامت إدارة المدرسة بتغيير اسمها من (مكتب الترقي الجعفري العثماني) إلى (المدرسة الجعفرية) تفادياً لإغلاقها من قبل الإدارة البريطانية.
النشاط الوطني للمدرسة الجعفرية
لم يكن مؤسسو المدرسة وكادرها التدريسي بعيدين عن التوجهات الوطنية خاصة بعد الاحتلال البريطاني للعراق الذي بدأ باحتلال الفاو عام ١٩١٤ وانتهت باحتلال بغداد في ١١ آذار ١٩١٧. فمن المعلوم أن المرجعية الدينية كانت قد أصدرت توجيهات بمواجهة قوات الاحتلال البريطانية. فقد أصدر المرجع الأعلى السيد كاظم اليزدي فتوى الجهاد الدفاعي عام ١٩١٤ ، وتبعه المرجع الأعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي أفتى باستخدام كل السبل في مواجهة قوات الاحتلال عام ١٩٢٠ التي كانت إيذاناً باشتعال ثورة العشرين في ٢٩ حزيران ١٩٢٠. وكل تلك الفتاوى ساهمت في تحريك الشعور الوطني لدى العراقيين ، خاصة وأن بعض المؤسسين هو من الزعامات الوطنية المعروفة.
عندما بدأ الغزو البريطاني للعراق في تشرين الثاني ١٩١٤ وصدور فتوى الجهاد الدفاعي من قبل السيد كاظم اليزدي سرعان ما استجاب لها الشعب العراقي. إذ تطوع أبناء العشائر والمدن يقودهم علماء الدين للذهاب إلى جبهات القتال في الجنوب. وكان السيد محمد سعيد الحبوبي أول المتقدمين للصفوف، وكان يجد المشاركة واجباً شرعياً ووطنياً. كما أرسل السيد الحبوبي رسائل وبرقيات إلى زعماء الفرات الأوسط يدعوهم فيها للتطوع والجهاد للدفاع عن العراق، ومنهم محمد مهدي القزويني ، السيد نور الياسري ، الشيخ مبدر الفرعون وعبد الواحد سكر وغيرهم. وكان للسيد الحبوبي دوراً في تأسيس المدرسة الجعفرية، وبقي تأثيرها في هيئتها وكادرها وطلابها.
في تشرين الثاني عام ١٩١٨ شرعت الإدارة البريطانية باستفتاء لمعرفة رغب العراقيين بشأن مستقبلهم ودولتهم. أرسل الحاكم المدني آرنولد ويلسون رسالة إلى عبد الرحمن النقيب الكيلاني ، وإلى القاضي الجعفري الشيخ شكر الله يطلب فيه أن يختار كل منهما (٢٥) شخصاً من طائفته للمشاركة في الاستفتاء. كما طلب من اليهود والمسيحيين ترشيح (١٠) أشخاص من كل طائفة لتمثيلهم كمندوبين.
عقد الشيعة اجتماعهم في المدرسة الجعفرية واختاروا ممثليهم ، من بينهم الحاج عبد الغني كبة ، وابن عمه عبد الحسين كبة. وأرسلت الأسماء إلى العقيد بلفور حاكم بغداد السياسي والعسكري. (٩)
في عام ١٩١٩ قام الوطنيون العراقيون بتأسيس تنظيم سري بعيداً عن مراقبة السلطات البريطانية وهي (جمعية حرس الاستقلال) وضمت لجنتها المؤسسة شخصيات من طلاب المدرسة الجعفرية ، منهم محمد حسن كبة ، صادق حبة (١٨٩٦-١٩٥٦) ، صادق الشهربانلي ، وعلي البازركان القيسي أحد مؤسسي المدرسة الجعفرية. كما تأسست في العام نفسه (جمعية الشبيبة الجعفرية) التي كان معظم أعضائها من طلاب المدرسة وهم سامي خوندة (١٩٠٠- ١٩٩١) ، رؤوف البحراني ، صادق البصام ، وعبد الرزاق الأزري ، جعفر حمندي ، ذيبان الغبان ، محمد حسن كبة وصادق حبة وغيرهم. وعقد اجتماعها التأسيسي في دار عبد الغني كبة. (١٠)
كان محمد حسن كبة يقوم بطبع وتوزيع المنشورات ضد الاحتلال البريطاني ، ولصق بعضها على جدران البيوت والأسواق والشوارع العامة. وكان يحضر الاجتماعات التي كانت تعقد ليلاً في جوامع الكرخ والرصافة ، وكذلك في دور الشخصيات المتصدية أمثال السيد محمد الصدر وجعفر أبو التمن.
منذ دخول القوات البريطانية إلى بغداد عام ١٩١٧ أخذت المدرسة الجعفرية تعقد اجتماعات خطابية يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. وكان الخطباء والشعراء يلقون خطبهم وقصائهم مما يساهم في توعية الجماهير والمطالبة بحقوقهم المشروعة من المحتل ، والمتمثلة بالاستقلال والحرية وإقامة حكومة وطني.
وكان لمؤسسي المدرسة الجعفرية ومدرسيها دوراً وطنياً في ثورة العشرين التي انطلقت في ٢٩ حزيران عام ١٩٢٠ وفي مقدمتهم جعفر أبو التمن ، الحاج شكر الله البغدادي ، محمد مهدي البصير ، محمد سعيد الحبوبي وعلي البازركان. ففي ١٢ أب ١٩٢٠ تعرضوا للملاحقة والاعتقال فاضطر جعفر أبو التمن إلى الهرب إلى النجف الأشرف. كما هرب يوسف السويدي والد توفيق وناجي السويدي واحمد الشيخ داود حيث هوجمت دورهم. وساعدهم على الهرب عبد المجيد كنة (١٨٨٧- ١٩٢٠) الذي أعدمته الانكليز في ٢٥ أيلول ١٩٢٠.
وكان جعفر أبو التمن قد غادر العراق متوجهاً إلى الحجاز ، وبعد إصدار عفو عام عن المشاركين في ثورة العشرين عاد إلى العراق حيث استقبل استقبالاً حاراً من قبل أهالي بغداد. وقد ألقى الشاعر محمد مهدي البصير قصيدة في الجموع المستقبلة يخاطب فيها أبو التمن كان مطلعها:
طرقتَ بغداد والاقبال مقتبل
فعش لشعبك واسلم أيها البطل
سافرتَ أمس فكم هزَّ الحشا وجَلٌ
وقد سفرت فكم هز الحشا جذلٌ
هي الجوانح كم قد شفا ألم
واليوم أنعشها في قربك الأمل
وكانت السلطات البريطانية تراقب المدرسة واجتماعاتها ونشاطات إدارتها المتمثلة بالحاج شكر الله وعلي البازركان وجعفر أبو التمن. تذكر المس بيل في أحد تقاريرها عن المدرسة الجعفرية: كان مستواها أرفع من مستوى المدارس الحكومية الابتدائية لكنها بالنسبة لسيرها كانت شيئاً لا اعتراض عليه. ولذلك لم تجد الحكومة بأساً من مدها بمنحة مالية عندما طلبت لها بعد ذلك. لكن أهميتها السياسية سرعان ما أصبحت أكثر من أهميتها التعليمية. (١١)
في عام ١٩٢٠ أقامت المدرسة الجعفرية حفلة لتوزيع الجوائز للطلاب المتفوقين ، فألقى الشاعر محمد مهدي البصير (١٨٩٥- ١٩٧٤) قصيدة اعتبرت رداً على تصريحات حاكم بغداد العسكري آرنولد ويلسون الذي سبق أن استدعى البصير وثلاثة من رفاقه من بينهم الحاج جعفر أبو التمن إلى مكتبه واتهمهم بأنهم مسؤولون عن حوادث الليلة الماضية ، ويقصد تظاهرة ٧ رمضان ١٩٢٠. وقد عُدّت هذه القصيدة من الأدلة التي أبرزها القاضي البريطاني المنفرد الذي تولى مقاضاة البصير عام ١٩٢٠. فهو كان يتمتع بسلطة مدع عام وقاضٍ في آن واحد. وقد حكم القاضي على البصير بالحبس الشديد لمدة سنتين ، وبدفع غرامة قدرها ثلاثة آلاف روبية هندية. وعندما رفع الحكم إلى المندوب السامي برسي كوكس للمصادقة عليه ، قام بتخفيف الحكم بالحبس الشديد لسنة واحدة فقط. ومما جاء في قصيدة البصير:
إن عُدّتَ غربياً فلعلك ذاكرٌ
عهداً نَعِمْتَ به وأنت عراقي
فيَّأتَ أهلَ الغربِ ظِل حضارةٍ
ضَرَبَتْ على العيّوقِ أي رواقي
لكنهم كفروا بنعمتك التي
جلّتْ فلحّوا في عمى وشقاقِ
أساتذة المدرسة الجعفرية
-علي البازركان القيسي (١٨٨٧- ١٩٥٨) باحث وكاتب وسياسي ونائب وخطيب ومربي شهير.
- صادق الملائكة كاتب ومربي ووالد الشاعرة نازك الملائكة.
- يوسف سلمان كبة باحث وأديب وحقوقي وإداري ، له كتاب (الحياة في لندن) عام ١٩٥٠.
- نوري ثابت (١٨٩٧- ١٩٣٨) كاتب وصحفي صاحب جريدة (حبزبوز) أصدرها عام ١٩٣١.
- الشيخ شكر الله بن شكر البغدادي (١٨٥٦- ١٩٣٩) من علماء الشيعة الأجلاء في الكرخ، ودرس في النجف والكاظمية. وعاش على أمواله الواسعة. وتصدى للتدريس وإمامة الجماعة في مسجد الزركشي بمحلة الشواكة ببغداد. تولى إدارة المدرسة الجعفرية منذ تأسيسها عام ١٩٠٨ وحتى وفاته عام ١٩٣٨. وبعد تأسيس المحاكم الشرعية الجعفرية بعد جلاء الأتراك ولي منصب القضاء الجعفري، ثم أصبح رئيس مجلس التمييز الشرعي الجعفري، لكنه استقال بعد مدة وانصرف للإمامة والتدريس.
وكان هناك مدرسون آخرون أمثال: محمد رضا الفتال، ملا مصطفى، عبد الستار الشيخلي، سامي خوندة، الشيخ جواد الزنجاني، كاظم شكارة ، عزيز البغدادي، احمد مدحت و ناصر عوني.
وعلى مر السنين ساهمت شخصيات معروفة في الهيئة الادارية لجمعية المدارس الجعفرية مثل: سلمان داود ابو التمن، صالح جبر (رئيس وزراء سابق)، فاضل الجمالي (رئيس وزراء سابق)، جعفر الشبيبي، عبد الكريم الازري، صادق البصام (وزير سابق)، سلمان مهدي التميمي .
من أبرز طلاب المدرسة الجعفرية
١-أحمد فياض المفرجي (١٩٣٦- ١٩٩٦)
صحفي ، كاتب مسرحي، أديب، من مؤلفاته (الحركة المسرحية في العراق) صدر عام 1965 و(المرأة في الشعر الحديث) صدر في بغداد عام 1985م، أسس وأدار المسرح الوثائقي للمسرح في بغداد، عمل في التمثيل .
٢- أحمد زكي الخياط (١٨٩٧- ١٩٧٤)
دبل