الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شعرية  التوتر بين الجسد واللغة لدى الروسية مارينا تسفيتاييفا.. حياة على حافة الجرح والقصيدة


شعرية  التوتر بين الجسد واللغة لدى الروسية مارينا تسفيتاييفا.. حياة على حافة الجرح والقصيدة

حميد عقبي

 

وُلدت مارينا تسفيتاييفا عام 1892 في موسكو، في بيت مثقف لكنه لم يكن سعيدًا. فقد كان والدها أستاذًا جامعيًا في تاريخ الفنون ومؤسس متحف الفنون الجميلة في موسكو، فيما كانت والدتها عازفة بيانو موهوبة، وكانت صارمة وقاسية في تعاملها مع ابنتها.

هذه الطفولة المشوبة بالبرودة العاطفية والموت المبكر للأم – إذ توفيت بمرض السل حين كانت مارينا في الرابعة عشرة – تركت أثرًا عميقًا في وعيها، فأدركت مبكرًا هشاشة الحياة وقسوة القدر، ووجدت في الشعر منفذها الوحيد للبوح والنجاة.

منذ مراهقتها، كتبت تسفيتاييفا قصائدها الأولى ونشرتها وهي لم تتجاوز الثامنة عشرة، وفاجأت الأوساط الأدبية الروسية بموهبتها الفذة، ثم سرعان ما صعد نجمها وصارت من الأسماء الواعدة في مطلع القرن العشرين، هذا الزمن المضطرب سياسيًا، ولكن كما نعلم جميعًا، كان زمن صعود الحداثة الأدبية.

تزوجت عام 1912 من سيرغي إفرون، ذلك الشاب الثوري، وعاشت معه سنوات من السعادة الغامرة، أنجبت خلالها ابنتين. غير أنّ دفء العائلة لم يلبث أن يتشقق تحت ضغط الحرب العالمية الأولى، ثم الثورة البلشفية وما تلاها من حرب أهلية.

بين عامي 1917 و1922، وجدت تسفيتاييفا نفسها ممزقة بعد أن التحق زوجها بالجيش الأبيض المعادي للبلاشفة، فيما بقيت هي في موسكو مع طفلتيها تعاني من الجوع والفوضى. وبسبب المجاعة اضطرت إلى وضع طفلتيها في ميتم حكومي، ماتت إيرينا، الابنة الصغرى، جوعًا وبردًا عام 1919، ليُخلِّف ذلك جرحًا ظلّ ينزف في قلبها حتى النهاية.

في عام 1922، استطاعت اللحاق بزوجها في براغ، ثم استقرت في باريس، حيث عاشا حياة المنفى. هناك كتبت أبرز أعمالها، لكنها عانت من الفقر والعزلة، خصوصًا مع رفض بعض أوساط المهاجرين الروس لها بسبب مواقفها الأدبية المستقلة. كان زواجها يتأرجح بين الوفاء والانكسار، فيما خاضت تجارب عاطفية جريئة مع رجال ونساء على حد سواء، لكنها لم تُفضِ إلى استقرار. كل علاقة كانت تنتهي بالخذلان، تاركة وراءها قصائد نبضت بالشغف والمرارة معًا.

بلا قرّاء ولا دعم

عندما نقرأ عن حياتها في باريس، نجد أن هذا المنفى كان غربة مكانية قاسية وعزلة وجودية خانقة، إذ بقيت تقف على الهامش، شاعرة كبرى بلا قرّاء تقريبًا ولا دعم. عاشت على بعض المساعدات الضئيلة، وظلّت ترتدي ثوبًا واحدًا في شتاأت قاسية، وتستدين ثمن الخبز. ومع ذلك ظلّت تكتب بشغف، كأنها تحرق نفسها في القصيدة.

وفي عام 1939، عادت تسفيتاييفا إلى الاتحاد السوفيتي بعد انكشاف عمل زوجها لصالح المخابرات السوفيتية. لكن العودة لم تجلب لها الأمان؛ فقد اعتُقل زوجها وابنتها الكبرى، بينما عاشت هي وابنها جورجي في خوف وفقر. ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية، فزادت الأوضاع مأساوية، وتم تهجيرها إلى بلدة يلابوغا التترية، حيث بلغت الوحدة والعزلة ذروتها. وفي عام 1941، وضعت حدًا لحياتها بشنق نفسها بحبل احتفظت به لسنوات.

إذن المتأمل لهذه الحياة، يجد أن مارينا تسفيتاييفا مرّت بسلسلة من المفارقات المدمّرة، بين السعادة العائلية القصيرة والخيبات الطويلة، بين الحب الجارف والعزلة، بين الشهرة المبكرة والفقر المدقع، بين الشغف بالحياة والانتحار. لكنها تركت لنا إرثًا شعريًا استثنائيًا، يتجاوز مأساتها الشخصية ليعكس قلقًا إنسانيًا جُبل من نار القصيدة وعذابات الوجود والخذلان.

ثيمات الشعرية

يُعد شعر مارينا تسفيتاييفا واحدًا من أكثر التجارب الروسية حدّة وجرأة في مطلع القرن الماضي، كون الشاعرة أبدعت مزيجًا من الغنائية الحادّة والتوتر الوجودي، ومن الصراع بين الرغبة في الانتماء والاغتراب القاسي الذي طبع حياتها، ثم الشعور بالتهميش والخذلان. ولعل أهم ثيماتها الكبرى انبعثت من تجربتها الشخصية، مثل: الحب، الأمومة، الفقد، المنفى، والموت.

ومع ذلك فإنها تجاوزت حدود السيرة الذاتية لتخلق لغة شعرية تمكّنت من الإمساك بما لا يمكن قوله في تلك الحقبة الزمنية، وتفنّنت في تحويل الألم الفردي إلى رؤية إنسانية واسعة.

الحب عندها لم يكن تجربة شخصية بل طاقة وقوة طاغية تشبه القدر، يرفع الإنسان إلى الأعالي ثم يحطّمه كما في الأساطير. وعند التأمل في قصائدها العاطفية نلمس أن الشاعرة عملت على فضح الشغف والخذلان معًا، وتظهر فيها نبرة اعترافية نادرة في الشعر الروسي التقليدي. كما أن الموت أيضًا لم يكن يحمل فكرة النهاية، لكنه ظل يحضر دائمًا في كل تفاصيل الحياة اليومية؛ فهي ترى أن كل لحظة حب أو لقاء تتضمن نبوءة بالفقد والانطفاء.

أما المنفى فيظل علامة بارزة، فقد عاشته على المستويين المكاني والوجودي؛ إذ كانت شاعرة تعيش وحدتها بعيدًا عن وطنها روسيا، وبعيدًا عن أي استقرار نفسي أو اجتماعي أو حتى عاطفي أو أدبي. أما الأمومة فكانت جرحًا غائرًا منذ فقدت ابنتها إيرينا جوعًا في الميتم، لذلك نلمس أن صورة الطفولة كثيرًا ما تظهر مهدَّدة، وهي مرآة لبراءة مهدَّدة قد تُقتل بسبب الجوع والمرض والحروب في عالم قاسٍ.

من المهم جدًا مناقشة نموذج، ولعل قصيدتها الشهيرة “الحافلة”، التي كتبتها تقريبًا عام 1934، تمثّل نموذجًا غنيًا لفهم أسلوبها وثيماتها.

القصيدة تبدأ بوصف الحافلة وهي تقفز وتهتز بعنف، تشبّهها الشاعرة بروح شريرة أو ثور هائج يخترق الشوارع الضيقة. تنشط الصور الحسية وتتراكم، وتصوّر الشاعرة الركاب وهم يهتزّون كالحبوب تحت الماء. هنا نكتشف ما تمتلكه تسفيتاييفا من قدرة فريدة على التقاط التجربة اليومية العابرة وتحويلها إلى مشهد كوني عنيف ومفجع، حيث يتحول الركاب إلى أجساد ممزقة في اهتزاز جماعي يشبه العاصفة.

لكن هذا النص لا يتوقف عند الواقعي، كونه يتصاعد نحو الرمز؛ فتأمل اهتزاز الأجساد يصبح اهتزاز الأرواح، ويفتح فجأة بابًا على الطفولة والبراءة، ثم على الفرح الذي يفجّر ضحكًا جماعيًا يحررهم، ولو للحظة واحدة، من ثقل الحياة. وعند توقف هذه الحافلة، تنقلب المشهدية تمامًا. ماذا نرى؟

تصوّر الشاعرة الطبيعة الخضراء المحيطة بوصفها نداءً إلى النقاء والحياة، فتخلق ولادة جديدة، حيث “الأخضر” يغمر الحواس ويعيد الروح إلى صفاء بدائي. وفي النهاية، تنقلب التجربة إلى درس شعري وفلسفي: العنف والفوضى يكشفان جمالًا خفيًا ومستترًا، والخوف يفضي إلى هروب مؤقت من الزمن.

القارئ المتأمل لقصيدة “الحافلة” سوف يدرك منهج تسفيتاييفا في خلق الدلالات؛ فهي تنطلق من لحظة يومية بسيطة، تلتقطها ببراعة وإنسانية، وتصعّدها بالاستعارة، ثم تفتحها على الأسطورة والتاريخ والذاكرة.

وبحسب ما قُرئ عنها، فهي ترى أن الشعر ليس زينة لغوية، بل حالة من الزيارة أو الوحي، أقرب إلى ما يشبه الحلم أو النبوءة. وهي نفسها كتبت في مقالة شهيرة بعنوان “الفن في ضوء الضمير” مؤكدة أن الشاعر لا يختار، بل يُختار، وأن الكتابة تشبه حالة من التلبّس أو الاضطرار.

النقاد الروس والغربيون قرأوا هذه القصيدة على أنها مثال على قدرة تسفيتاييفا على تحويل القبح إلى جمال؛ فالحافلة المزدحمة، وما يولده العنف والارتجاج، تتحول إلى مشهد طهراني من الضحك والجماعة والاتحاد بالطبيعة.

وهناك أيضًا من يرى أن النص عكس بقوة وصدق قلقها الداخلي، فقد كانت حياتها في تلك الفترة مثقلة بالفقر والعزلة في باريس، فجاءت القصيدة كتعبير عن محاولة لالتقاط لحظة حرية وسط الاضطراب.

عند البحث عن تقييم النقاد لتجربتها الشعرية، سوف نقرأ أن البعض وصف هذه التجربة بأنها مرّت بمراحل متناقضة وقاسية. ففي زمنها، لم تنل الاعتراف الذي استحقته بسبب مواقفها المستقلة.

 ونُظر إليها بشك من طرف المهاجرين الروس ومن طرف النظام السوفيتي على حد سواء. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، ومع نشر أعمالها في موسكو والغرب، أُعيد الاعتبار لها.

الناقد بوريس باسترناك وصفها بأنها «عبقرية لا تُقارن»، فيما وضعها بعض النقاد الغربيين في مصاف كبار شعراء القرن العشرين مثل ريلكه وبول تسيلان.

اليوم، تُدرَّس تسفيتاييفا في الجامعات العالمية ضمن مقررات الأدب الروسي الحديث ودراسات الجندر. النقاد النسويون، خصوصًا، وجدوا في صوتها مثالًا مبكرًا على الكتابة الاعترافية النسائية، وكتابة جريئة في التعبير عن الجسد والرغبة، تتجاوز السياق التاريخي والرقابة. نجد الكثير من قصائدها مترجمًا إلى معظم اللغات الأوروبية، ويمكن القول إننا نقرأ نصوصًا هي شهادة على قدرة الشعر ومحاولاته البحث عن النجاة من المحو رغم الظروف القاسية، وكان انتحارها بمثابة ترجمة لاعتراضها وإيمانها بقبح هذا العالم.

 

إذن إن قصيدة «الحافلة»، والتي يمكن أن تجدوها بالإنجليزية والفرنسية بسهولة، هي حقيقة تكشف لنا صورة تسفيتاييفا كاملة. هذه الشاعرة أمسكت بالفوضى اليومية وصاغت منها معنى كونيًا؛ امرأة عاشت على الحافة بين الحياة والموت، كاتبة حوّلت الفقد والاغتراب المتكرر في حياتها إلى نهر من الصور والأصوات. وربما يكون هذا هو سر بقائها حيّة في النقد الأدبي حتى اليوم، لأنها أبقت جراحها مفتوحة على الأسئلة الكبرى للإنسان.

 

مقطع من بداية قصيدة الحافلة

 

الحافلة

 

قفزت الحافلة، كروح وقحة،

كشيطان يشقّ حركة المرور

في شوارع ضيقة كهوامش الكتب،

اندفعت في طريقها تهتز

كما تهتز قاعة حفلات

تضجّ بالتصفيق. ونحن اهتزتزنا داخلها!

 

شياطين أيضًا. هل رأيت

بذورًا تحت صنبور ماء؟

كنّا مثل بازلاء في حساء يغلي،

أو مثل ألعاب عيد الفصح

ترقص في الكحول. حبوب مسحوقة!

أسنان في فم مرتجف بردًا.

 

ما تناثر بفعل الاهتزاز

يكفي لصنع ثريا:

كل الرؤوس وعظام

امرأة عجوز. عقد

على صدر تلك الفتاة. يرتجف.

والطفل عند ثدي أمه.

 

هزّتنا جميعًا بلا مرجع،

مثل كمثرى متساقطة،

هزّنا في اهتزاز موسيقي،

كآلات كمان.

العنف هزّ أرواحنا،

حتى انفجر أحدنا

ضحكًا، وعاد إلى الطفولة.

 

شبابٌ من جديد. نعم. فرحٌ

في أن يُقذَف بك إلى البنتوّة!

أو ربما أبعد من ذلك،

إلى أن تصير صبيّة مشاكسة

بابتسامة مليئة بالأسنان.

 

كأن الناي الساحر

قادنا، ليس خارج المدينة،

بل خارج التقويم ذاته.

 

أخيرًا ننوه إلى دعوة المترجمة إيلين فاينستين والتي دعت القراء إلى إعادة قراءة تسفيتاييفا بعيدًا عن الصور الكلاسيكية التي حصرت الشعر الروسي في أصوات مثل بوشكين أو ماياكوفسكي. فهي ترى أن تسفيتاييفا قدمت بعدًا آخر: شعرية قائمة على التوتر بين الجسد واللغة، بين التجربة الفردية والقدر الجماعي. إعادة قراءتها اليوم هي ضرورة لفهم كيف يمكن للشعر أن يُحوّل الفقدان والمنفى والفقر إلى طاقة جمالية خلاقة.

 


مشاهدات 48
الكاتب حميد عقبي
أضيف 2025/12/26 - 10:56 PM
آخر تحديث 2025/12/27 - 12:26 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 32 الشهر 19690 الكلي 13003595
الوقت الآن
السبت 2025/12/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير