أحاديث ليست للنشر مع إياد علاوي: هكذا تعامل مع بريمر وكيف أطلق أركاناً سابقين من الإعتقال
كيف نجا من الإغتيال والمطاردة وإحتفظ بذاكرته الحديدية؟
أحمد عبد المجيد
لم يولد الدكتور اياد علاوي وفي فمه ملعقة من ذهب، برغم انحداره الطبقي المعروف، فالرجل اذا جلست اليه وشحذت ذاكرته تلمس حجم التحديات التي واجهها في حياته، منذ كان طالباً في كلية الطب بجامعة بغداد.
كانت سنوات الدراسة، على صعوبتها، حقبة صراع سياسي بدأت معالمها بالتبلور بعد ما عرف باضراب الطلبة الذي كان شرارة الاطاحة بزعيم ثورة 14 تموز 1958، ثم كانت بعد ذلك نقطة الانطلاق نحو الخلاف الحاد مع الصعود المفاجئ لصدام حسين ومحاولاته الهيمنة على التنظيمات الشبابية وغيرها.
لقد ظلت هذه الخلافات قائمة بشدة بعد تموز 1968 والدور الذي تبوأه صدام حسين في مواجهة خصومه، علناً والشروع بتصفيتهم واحداً واحداً وجماعات، لكن هروب اياد علاوي الى بيروت ومنها الى لندن انقذ حياته وأسرته من الموت.
ويتذكر علاوي تسلسل هذه الوقائع وكأنها من بنات أمس القريب. يتحدث عنها بالشرح والتفصيل، لأنها تمثل مصدراً من مصادر قوته الشخصية ودلالة على رفضه البات لسياسة الاحتواء ثم الانزواء و الاغتيال. وكم مرة واجه هذا الخيار وقرر البقاء على رفض السياسة التي اتبعت معه ومع مئات البعثيين، عبر قنوات استخدمها صدام حسين للتهديد والوعيد وتنفيذ المحاولات.في شقته بلندن دهمته خلايا الجلادين بساطور، وكاد ان يفقد حياته وحياة زوجته، التي ترحم على روحها في اكثر من موضع خلال لقاء جمعنا بعلاوي بداره في شارع الزيتون ببغداد. ولا يأخذن الوهم أحداً فيظن ان الرجل يتعامل أو يتصرف مع القادمين اليه وفق بروتوكول الزعيم أو الدكتاتور، بل ما يلفت النظر عنه، تواضعه الجم وحرصه على تسمية ضيوفه بأسماء محببين الى نفسه، فكثيراً ما كان يصف المحامي البارز ضياء السعدي الذي مهد لهذا اللقاء (ضيوئي) أو يصف الدكتور علي الرفيعي الذي التحق بنا ، (علاوي) وكذلك فعل مع رابعنا المرشح المدني نبيل السامرائي. لعلها طريقة تحتمل أمرين الاول رفع الحرج عن الضيوف ونشر الارتياح في نفوسهم ليأخذ الحوار معهم انسيابية دافئة، والثاني يعكس طبيعة المضيف البغدادية التي تنهل من تراث اجتماعي ودي.
في اللقاء اكتشفت الطبيعة الانسانية لعلاوي، عبر سلسلة من تدخلاته أو توسطاته لانقاذ ذوي حاجة أو رفع مظلمة.
حاكم مدني
وقد حدثنا عن دوره في اقناع الحاكم المدني بول بريمر من اجل اطلاق سراح الخبير في التصنيع العسكري عامر السعدي ، وعضوة القيادة القطرية هدى عماش التي قال انها مكثت في منزله مع شقيقتها اسبوعين، قبل مغادرتها العراق، ووزير النفط الاسبق صفاء الحبوبي ، ودوره كذلك في تهريب احمد نجل عزة الدوري الى سوريا، ابان كان مصاباً بطلق ناري في كليته.
وبدا لي علاوي فخوراً وهو يكشف انه والزعيم مسعود البارزاني كانا الوحيدين اللذين لا يقفان عند قدوم بريمر لرئاسة مجلس الحكم. وأكد (انهما الوحيدين اللذين لم يكونا يتوافقان معه على قراراته).
كان علاوي مزهواً جداً وهو يستذكر دوره أيضاً في اقناع (الأمريكان) بضرورة الحفاظ على مصانع التصنيع العسكري بوصفها ملكية عامة للدولة وحماية موظفيها بوصفهم تقنيين وأكاديميين، وعلى ضرورة اعادة الضباط القدامى في الجيش السابق الى الخدمة وتشكيل هيكلية قوات مسلحة تمتد الى أرث الجيش العراقي.
وفيما كان الحديث يتواصل بيننا، كان السعدي يذكر علاوي ببعض أصدقائهما السابقين، ويأسف الرجل لانه، أما لم يتواصل معهم بسبب ظروف الغربة، أو توفاهم الله فحرمه من لقائهم.
وعلى الفور طلب من السعدي الاتصال بعائلة أحد اصدقائه الذين رحلوا، ثم استعار الهاتف وبدأ حديثاً مفعماً بالتحايا مع نجل الراحل، مشيداً بكفاحه، وابدى الاستعداد للمساعدة في أي طلب، كما رجاه ايصال سلامه وتحياته الى والدته.
ان سيرة اياد علاوي طويلة وحافلة لا تتسع جلسة واحدة، بكل ما انطبع فيها من اريحية وصفاء ذهن، الى تسجيلها بالكامل، ولذلك اقترح الاطلاع على مذكراته (بين النيران) التي طبعت بثلاثة اجزاء، ففيها معلومات وافية عن المحطات الصعبة. وأبديت ترحيبا بالفكرة، لاسيما واني زرت علاوي لتقديم نسخة من كتابي الجديد اليه (خير جليس واسماء ملهمة). وقد فاجأني بالتمعن الدقيق بغلافه وتصفح صفحاته، لالتقاط ما تيسر له من لمحات فيه، ما خلق انطباعاً ايجابياً لدي بأن علاوي قارئ جيد للكتب، مثلما هو قارئ سياسي واخلاقي جيد للاوضاع العامة، كالحديث عن الثقل الانتخابي والامور السياسية.
قمة عربية
لم تخل الجلسة من مداولات وعرض رؤى في الشؤون الحياتية وتطورات الحراك الداخلي والأوضاع الاقليمية، وصادف ان التلفزيون في صالة الضيافة، كان يعرض مباشرة مؤتمراً صحفياً من الدوحة، عن مخرجات القمة العربية الاسلامية. وقد أجمل علاوي رؤيته بايجاز، مثنياً على دعوة الرئيس التركي الى أهمية اعتماد العرب والمسلمين على انفسهم في التسليح، ودعوة الزعماء الاخرين بضرورة القيام بعمل نوعي حقيقي لردع اسرائيل ولجم تهورها في المنطقة وايقاف حرب غزة التي تحولت الى ممارسة مدانة دولياً للابادة الجماعية لشعب فلسطين.
وكانت قد سنحت لي فرصة سابقة بمعية نخبة محدودة من الشخصيات بينهم المفكر عبد الحسين شعبان للقاء علاوي، لكني وجدته في هذا اللقاء أكثر حيوية ونشاطاً، ولمست فيه ذاكرة حديدية، برغم تقادم العمر. فهو راو ممتع للحوادث، لا ينسى شيئاً من تواريخها واسماء ابطالها، ويحرص على روايتها بالتسلسل المنطقي معززاً بعض تفاصيلها بالشواهد والبراهين، انه لا يسرد الوقائع التاريخية، ليكون بطلاً لها أو يستعرض أدواره في بيئة مضطربة وساخنة عاشها الرجل، بل يرويها كشاهد اثبات، ولاسيما انــــــــه يتحــــــدث الى صحفي والى رجال قانون.
وكـــــــــنت مهتماً بروحية الوفـــــاء التـــي اتصفت بها مرويات علاوي، عندما تذكر المفكر الاسلامي الراحل عز الدين سليم، الذي وصف برجل الاعتدال وأسف لحادث اغتياله الناسف.
وعلي الاعتراف ان اللقاءات التلفزيونية التي تجرى مع علاوي، ظلمت الرجل كثيراً، فما وجدته في حديثه من تدفق وقدرة عل الاقناع يدعواني الى الجزم بأن الوقوف امام الكاميرا صناعة لا يجيدها السياسيون احياناً، مثلما يقع في مطباتها المفكرون احيانا. فأياد علاوي رجل مجالس وادارات سياسية ميدانية، واذا كان يفتقر الى موهبة السجال الحواري والاجابات الصارخة والارتجال، فأنه يبقى عنواناً في رجل ومناضلاً ثورياً لا يهدأ له بال.
في اليوم التالي رأيت ان أنقل الى الاستاذ سعد البزاز تحيات وتمنيات طيبة حملني اياها علاوي له، فأجابني برسالة نصية:
(د.أياد وطني ثابت وصادق ومكافح يستحق الاحترام والتقدير والوفاء). لا أبلغ من شهادة صادقة من نفس أبية.