الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حرب الخداع .. سردية عن وسائط السراب والسيطرة

بواسطة azzaman

سلاح العقل قبل الأسلحة الأخرى

حرب الخداع .. سردية عن وسائط السراب والسيطرة

ياس خضير البياتي

 

في جوهر الحـــــــــــــــرب، الخداع ليس مجرد حيلة عسكرية، بل هو أقدم وأخفى الأسلحة، سلاح يُزرع في العقول قبل أن يُترجم إلى رصاص ودبابات. إنه الظل الذي يسبق الفعل، الحقيقة المشوهة التي تُقال نصفها لتُخفي بقية المعنى، علم وفن يتقاطع عند مفترق العقل والغريزة. جذوره ضاربة في الفلسفة ويتمدّد عبر الجغرافيا النفسية للشعوب والجماعات.

من أيام السفسطائيين في اليونان، مرورًا بنصوص صن تزو في «فن الحرب»، فهم البشر أن أعظم الانتصارات تلك التي تُنتزع بلا قتال. هذا الفهم شكّل فلسفة الخداع: أن يُرى العدو ضعيفًا بينما هو قوي، وأن تُرسل إشارات خاطئة لتضليل الخصم. واليوم، يعرف العلم الخداع بأنه «نقل معلومات مضللة لدفع المتلقي لاتخاذ قرارات تخدم المرسل».

لكن الخداع لا يقتصر على الجيوش فقط، بل هو عنصر مركزي في علم النفس والإعلام. في علم النفس، يُعد شكلاً من «الإدراك الموجّه»، حيث تُستغل مرشحات العقل لتوجيه السلوك ضمن وهم الواقع. أما الإعلام، فيستخدم ترتيب الحقائق مع ترك فجوات تُملأ بالخيال الجماعي، ليُصنع رأي عام موجه. كل ذلك مبني على فهم عميق لخوف الإنسان، تحيزاته، وتوقعاته، وهو ما يُمكن من دفع مجتمعات بأكملها إلى تصديق حروب وهمية أو تجاهل أزمات حقيقية.

أمثلة التاريخ كثيرة: النازيون الذين حشدوا الشعب الألماني عبر خطابات الخداع، والأمريكيون الذين أقنعوا مجتمعهم بتهديد فيتنام، وعمليات التضليل حول أسلحة الدمار الشامل قبل غزو العراق. هنا، يصبح الخداع «هندسة للواقع»، يبني سرديات مُتقنة تخدم أجــــــــــــندات سياسية وعسكرية.

معارك الإعلام والظل

مع التطور التكنولوجي، انتقل الخداع من ساحات المعارك التقليدية إلى ساحات الإعلام والفضاء السيبراني. في الحرب العالمية الأولى، كان الضباب والغاز السام جزءًا من المواجهات، ولكن الخداع الإعلامي كان حاضرًا في بث أخبار تقدمات وهمية لرفع المعنويات وتقليل قدرة العدو على المقاومة.

في الحرب العالمية الثانية، بلغت حيل الخداع ذروتها في عملية «فورتتيود» التي خدعت النازيين وجعلتهم يتوقعون إنزالًا في مكان خاطئ، باستخدام دبابات مطاطية، طائرات كرتونية، ورادارات مزيفة. أما في الحروب المعاصرة، كغزو العراق 2003، فقد ارتكزت على سلسلة من التضليل الإعلامي والاستخباري حول أسلحة دمار شامل غير موجودة، فيما الحرب الروسية الأوكرانية تمثل نموذجًا حيًا لتكامل التضليل الرقمي، والخداع العسكري، والاختراق النفسي.

الحرب الرقمية اليوم لا تتطلب جنودًا في الميدان بقدر ما تتطلب خوارزميات تنشر الشائعات وتصنع الروايات، مستغلة الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية، والحملات الرقمية خلال جائحة كورونا، كلها أمثلة على كيف تحول الإعلام إلى ساحة قتال نفسية حديثة.

في هذا السياق، لا يُعتبر الإعلام مجرد ناقل للخبر، بل مصنع للوعي. تعتمد الدول على ما يُسمى بـ»الإعلام الرمادي» الذي لا يكذب صراحة ولا يصحح كل الحقائق، بل يُعيد ترتيبها بذكاء لتوجيه الغضب أو ترويضه، وخلق سرديات موجهة عبر حملات تضليل منظمة، استهداف خوارزمي للمحتوى، وحتى تصنيع فيديوهات وصوتيات مزيفة باستخدام الذكاء الاصطناعي.

حتى الاقتصاد بات ميدانًا لحروب الخداع، عبر التضليل في الأسواق، تلاعب العملات، وتوجيه المستثمرين، وكل ذلك ضمن منظومة أوسع من الحرب النفسية التي تستهدف التحكم في الواقع عبر السيطرة على التصورات.

كيف تُسيطر الروايات على الواقع

في مناطق الصراع الحديثة مثل غزة، تتجلى قوة الخداع بوضوح: تسريب خبر اجتياح بري مزيف دفع المقاومة لسحب قواتها إلى الأنفاق، لتشن إسرائيل ضربة مركزة على المواقع التي ظنت المقاومة أنها آمنة، معتمدة على خداع إعلامي وتقني مدروس. وفي الولايات المتحدة، كشفت حملات تضليل رقمي متطورة عن استخدام حسابات مزيفة وذكاء اصطناعي لتوجيه الرأي العام ودعم سياسات معينة.

كما تلعب إسرائيل وأمريكا لعبة «القناع المبتسم» في المفاوضات العلنية، حيث يروّجون لفرص دبلوماسية وهمية بينما يحضرون لضربات عسكرية صامتة مثل الهجمات الجوية باستخدام طائرات شبحية وصواريخ دقيقة. هذا التكتيك من «التهدئة المضللة» يهدف إلى إشغال العدو بالتفكير السياسي بدلًا من الاستعداد الميداني، وخلق حالة من الإرباك الذهني تخدم الأهداف الاستراتيجية.

الخداع هنا ليس مجرّد فن تكتيكي، بل بناء نفسي وإعلامي دقيق يُدار عبر تسريبات محسوبة وتحليل نفسي، تحافظ على شرعية مزيفة للهجوم وتضع الخصم في دوامة من المعلومات المتضاربة والشكوك، فتُحبط قدرته على رد الفعل.

هذا النموذج الأمريكي الإسرائيلي يعكس تحولًا عميقًا في طبيعة الحروب، حيث لا تكفي القوة العسكرية وحدها للفوز، بل السيطرة على السرد، وضبط توقيت الإشاعات، وإدارة الرأي العام العالمي. في هذا المسرح، لا تُقتل الحقيقة برصاصة، بل تُغتال ببيان، ولا يُهزم العدو بالصواريخ فقط، بل بالزيف.

في عالم تتداخل فيه المعلومات بالخيال، وتصبح الروايات المصممة سلاحًا أقوى من القنابل، يصبح الكشف عن الخداع هو الانتصار الأول في معركة السيطرة على الواقع.

التمويه كفنّ استراتيجي

لقد نجحت الولايات المتحدة، كما إسرائيل، في حياكة خيوط رواية مركّبة، لا يفهمها إلا من يقرأ ما بين السطور. في الوقت الذي كان يُقال فيه إن واشنطن تضغط لوقف إطلاق النار، كانت بوارجها تتحرّك جنوب المتوسط، وأقمارها الاصطناعية تُراقب نبض الأرض عن كثب. وما إن وقعت الضربة، حتى ظهرت الحقيقة كطيف: أميركا كانت موجودة دائمًا... لكن تحت القناع.

الخداع هنا لم يكن تكتيكًا عسكريًا فحسب، بل بناءً نفسياً دقيقاً. كانت الأخبار تُسرّب ببطء، مثل قطرات السمّ. خرائط، تحليلات، تقارير مُسربة عن ممرات تهريب، ثم حديث ناعم عن مفاوضات... ليتبيّن لاحقًا أن كل ذلك كان غطاءً لضربة قادمة، أو لتبرير دم آتٍ.

في هذا المشهد، لا تبدأ الحرب بانفجار، بل بسردية. لا يُهزم الخصم بالقوة، بل بالتحكم برواية ما يحدث له. تستخدم الولايات المتحدة وإسرائيل: تسريبات مدروسة. تقارير صحفية تمهيدية.,رسائل طمأنة مخدّرة. عمليات «تهدئة مضلّلة».

كل هذا لصناعة إحساس زائف بالأمن، وشلّ الاستجابة لدى العدو، وشحن الرأي العام بمبررات «أخلاقية» للهجوم.

لم تكن هذه أول مرة يستخدم فيها الجيش الإسرائيلي الإعلام كقنبلة صوتية، بل امتدادًا لتقاليد قديمة، بدأت منذ «لافون» ولم تنتهِ مع «حارس الأسوار». هكذا تتماهى الدولة مع الظل، وتتقدّم الصورة على الفعل، حتى يصبح الإعلام نفسه سلاحًا دقيقًا، يشوّش ويضلل ويغتال دون رصاصة.

الإعلام... العدو والضحية

في هذه الحرب، لم يكن الإعلام ناقلًا للحدث، بل جزءًا من هندسته. تسريبات مقصودة، تغطيات انتقائية، حملات ممنهجة ضد الصحفيين، واختراقات رقمية زرعت الفوضى في وجدان الرأي العام. إسرائيل لم تكن تحارب غزة وحدها، بل كانت تدير حربًا على الحقيقة نفسها.

بل أكثر من ذلك، شاركت واشنطن في هندسة هذا المشهد الإعلامي. تسريبات عبر «نيويورك تايمز»، ضغط سياسي على قنوات أميركية لتغيير نبرة التغطية، وحملات ذكية على وسائل التواصل، أنشأت عشرات الحسابات المزيفة لإعادة صياغة الرواية وكأنها رأي عام.

في واحدة من أكثر العمليات تعقيدًا وخداعًا في الصراعات الحديثة، نفّذت الولايات المتحدة وإسرائيل ضربة منسّقة على مواقع نووية إيرانية، من بينها «نطنز» و»فوردو»، مستفيدتين من التكتيكات النفسية والعسكرية ذات الطابع التمويهي. أثناء الحديث العلني من قِبَل الإدارة الأميركية عن فتح مسار دبلوماسي، كانت الاستعدادات العسكرية تجري في السر.

استخدمت الطائرات الشبحية من نوع B-2 كأسلحة تمويهية عبر إرسال تشكيل زائف غربًا، في حين نفّذت مجموعة أخرى الضربة الفعلية من جهة مختلفة. الإيرانيون لم يردوا بإطلاق أي صاروخ، نتيجة نجاح الخداع الاستخباراتي والإعلامي، وفق اعترافات ضباط دفاع أمريكيين. التسريبات المقصودة للصحافة قبل الضربة كانت جزءًا من مخطط لتضليل العدو وتحييد قدرته على الرد الفوري.

مهندسة الضباب في الشرق

في مشهد مكتظ بالخداع والسيطرة الإعلامية، تتوارى إيران بصمت مدروس، لكن السؤال يظل معلقًا في الأفق: أين ذهبت الدولة التي برعت في خلط الأوراق على طاولات التفاوض، وأتقنت فنون التلاعب في ميادين الظل؟

إيران، التي لطالما عُرفت بإتقانها للغموض الاستراتيجي، لا تغيب عن المشهد، بل تديره من وراء الستار. تمارس ما يمكن تسميته بـ»الصبر المفخخ»، تراقب، وتنتظر، وتنسج بهدوء شبكتها من الردع غير المباشر. لا تُكشّر عن أنيابها، لكنها تزرع الأشواك تحت أقدام خصومها. تراهن على الإنهاك، لا على الانفجار، وعلى تآكل القرار من الداخل قبل أن تسقط أول قنبلة.

في هذا التصعيد، اختارت طهران الاكتفاء بالخداع الوقائي والتضليل الإعلامي المحدود، وتجنّبت التورط العلني خشية أن يُستخدم كذريعة لضربة مباشرة. تسريباتها محسوبة، وتهديداتها ملفوفة بغلالة من التأويل. تدير الحرب بأدوات غير مرئية، عبر الوكلاء، الرسائل الغامضة، وخطاب المقاومة المحاط دائمًا بضباب كثيف من الإنكار والتهويل.

في تجاربها السابقة في سوريا، العراق، واليمن، أتقنت طهران التعتيم المقصود، وارتدت قناع التفاوض بينما كانت تزرع أوراقها على الأرض. كل خطاب رسمي يخرج منها يبدو وكأنه شيفرة قابلة للتأويل، وكل صمت إيراني يُفسَّر على أنه استعداد مموّه.

إيران لا تُعلن خطواتها، بل تُلمّح. لا تدخل الحرب بصخب، بل تزحف داخل ضباب كثيف من النيات المؤجلة. إنها واحدة من أمهر اللاعبين في مسرح «الخداع الجيوسياسي»، حيث تُنسج الحقائق من خيوط الشك، وتُدار الصراعات بذكاء الصمت لا بصوت السلاح.

خاتمة: حين تصير الحقيقة أسيرة

ما نراه اليوم ليس خداعًا عارضًا، بل تحولًا في طبيعة الحرب ذاتها. لم تعد الحرب تبدأ بإعلان وتنتهي بتوقيع، بل تبدأ بسؤال: من الذي يروي القصة؟ وفي هذا المشهد، تتفوّق من يملك القصة، لا من يملك القنبلة. الخداع الأميركي – الإسرائيلي نموذج لزمن جديد، حيث تنقلب الأخلاق، وتُغلف الجريمة بورقة دبلوماسية، ويُقتل العدو لا في ساحة القتال، بل في أذهان جماهيره.

في النهاية، «مسرح الخداع الحديث» لم يعد خيارًا تكتيكيًا، بل بنية تحتية استراتيجية. إنه علم يُدرّس في كليات الحرب، ويُوظّف في الدعاية، ويُزرع في خوارزميات التواصل الاجتماعي. الخداع لا يدمر المباني، بل القناعات. لا يُسيل الدماء، بل يُحوّر البصيرة.

إنه سلاح القوة الذكية الذي، إذا ما أُسيء استخدامه، يجعل العالم يقاتل على أسس كاذبة، ويخشى أشباحًا صُممت على شاشة، لا في الواقع. فالتهديد القادم ليس فقط من صواريخ عابرة للقارات، بل من كذبة تُبنى بذكاء، وتُقال آلاف المرات حتى تبدو كأنها الحقيقة.

في هذا الزمن، الحقيقة لا تُقتل برصاصة، بل تُغتال ببيان. العدو لا يُهزم بالصواريخ، بل بالزيف. والصراع لا يُربح بالجنود، بل بالرموز والسرديات. في مسرح الخداع الحديث، بات الحُرّ مطالبًا أن يكون أكثر من مقاوم... أن يكون باحثًا عن الحقيقة وسط ضباب من الأكاذيب المنسقة. وهنا فقط، يصبح كشف الخداع... هو الانتصار الأول.

 


مشاهدات 63
الكاتب ياس خضير البياتي
أضيف 2025/06/25 - 3:17 PM
آخر تحديث 2025/06/26 - 10:28 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 266 الشهر 16240 الكلي 11150894
الوقت الآن
الخميس 2025/6/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير