الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
سوق الكتابة

بواسطة azzaman

سوق الكتابة

سهيلة بورزق

 

لطالما شُبِّه الكاتبُ في المخيال الجمعي بالمُنير والحكيم، الذي يسكب فكره على الورق دون انتظار مقابل، وكأن الكتابة فعلٌ خارج اقتصاد السوق، وكأن الكلمات لا تُنتَج إلا من باب الزهد الفكري والتأمل الخالص. غير أن هذه الرومانسية الزائفة تُخفي وراءها بنيةً استغلاليةً متكاملة الأركان، تتجلى في تلك الدعوات التي تُقدَّم للكتّاب للنشر دون مقابل، تحت مسميات شتى: “نشرٌ مجاني”، “فرصة للانتشار”، “إثراء المحتوى الثقافي”، وكلها، في جوهرها، تبريرات تُرسّخ قناعةً ضمنية بأن الكاتب ليس عاملًا منتجًا بل كائنًا يستهلك ذاته في سبيل رسالةٍ عليا لا يحق له المطالبة بأجر مقابلها. لكن، إذا تأملنا هذا الخطاب، وجدناه لا يسري إلا على الكاتب وحده. فالمنظومة الصحفية، التي تُناشد الكاتب بأن يكون زاهدًا، هي ذاتها منظومةٌ اقتصادية قائمة على رأس المال، حيث تُباع الصحف، وتُحصد أرباح الإعلانات، ويُدفَع للموظفين، وتُغطى تكاليف الطباعة، بينما يبقى الكاتب—وهو المنتج الفعلي للمحتوى—مُستثنى من معادلة الربح. هنا يتجلى اختلال توازن القوى في هذه العلاقة غير المتكافئة بين المؤسسة الإعلامية وصاحب القلم، حيث تُصادَر حقوقه الاقتصادية باسم “القيمة الفكرية”، دون أن يُطرح السؤال: لِمَ لا يُطلب من باقي العاملين في الصحيفة التضحية بالمنطق نفسه؟ لماذا لا يُمارَس الضغط المعنوي على المصممين والمحررين والمُدققين اللغويين والمُعلنين، بحيث يعملون جميعًا بلا مقابل، حبًا في “الرسالة الإعلامية”؟ الجواب بسيط: لأن الفكرة ليست سوى وسيلةٍ لتطبيع الاستغلال، ولإدامة تصورٍ زائفٍ عن أن الكتابة لا تدخل في دائرة الإنتاج القابل للتقييم المالي، وهو تصورٌ يهدف أساسًا إلى حماية أرباح المؤسسات الإعلامية على حساب المنتج الأساسي للمحتوى. هذه البنية تستمد قوتها من خطابٍ ثقافي يكرّس فكرة أن الإبداع، بخلاف باقي المهن، لا يُفترض أن يكون مصدر رزق، وكأن الكاتب هو الوحيد المُطالب بأن يكون ناسكًا في معبد الحروف، في حين أن الجميع يعمل وفق منطق السوق.

والأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الصحافة الورقية فقط، بل امتدّت إلى الصحافة الرقمية، حيث استُبدِل “الانتشار” بفكرة “عدد المشاهدات”، وكأن حصول الكاتب على بضعة آلاف من القُرّاء يُعادل حصوله على أجرٍ ملموس. لكن، في نهاية المطاف، حين تُباع المقالات في أرشيفات الصحف، أو تُستخدم لرفع معدلات التفاعل وحصد الإعلانات، يبقى الكاتب هو الطرف الوحيد الذي لم يتلقّ مقابلًا، رغم أن قلمه هو الذي صنع القيمة من الأساس. إذن، نحن أمام إشكالية مزدوجة: فمن جهة، هناك البُعد الاقتصادي لهذا الاستغلال، حيث يُنتج الكاتب سلعةً يتم استثمارها لصالح الصحيفة دون أن ينال من عائداتها شيئًا. ومن جهة أخرى، هناك البُعد الثقافي، حيث يُعاد إنتاج خطابٍ يُرهب الكاتب نفسيًا وأخلاقيًا، ليشعر أن مطالبته بأجر تُناقض “شرف المهنة”، بينما الحقيقة أن الشرف لا يتحقق حين يعمل طرفٌ بلا مقابل، بينما يجني الآخرون أرباحًا من إنتاجه. إن الكتابة ليست مجرد شغفٍ أو رسالة، بل هي عملٌ فكري يستلزم جهدًا وزمنًا وخبرةً، تمامًا كما هو الحال في أي مجالٍ آخر. والمطالبة بتقدير هذا الجهد ماديًا ليست انتقاصًا من قيمته، بل هي السبيل الوحيد لضمان استمراره بعيدًا عن الاستغلال المُقنَّع الذي يستنزف المبدعين، بينما يُثري من لا يكتبون حرفًا واحدًا.

كاتبة ومديرة بيت الثقافية والفنون  بواشنطن دي سي

 


مشاهدات 72
الكاتب سهيلة بورزق
أضيف 2025/03/22 - 1:23 AM
آخر تحديث 2025/03/22 - 2:30 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 478 الشهر 12601 الكلي 10573550
الوقت الآن
السبت 2025/3/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير