أستاذنا ونازك الملائكة
فيصل عبدالحسن
كان أستاذنا حين يتحدث عن نازك الملائكة يحمر وجهه، فقد كانت أستاذته في سنوات الكلية بجامعة البصرة، وكان يحكي ذكرياته عنها، وعن فكرها الإسلامي، وشعورها العروبي العميق» ووقتها كان الحزب القومي العراقي « المتأثر بأفكار جمال عبد الناصر محارباً في العراق وقد نزعت أسنانه بعد التغيير في العراق» 1968 فلم يذكر لنا يوماً شيئاً عن تأثر نازك بالحزب القومي العراقي أبداً، كان يمدح فيها الجانب الديني فقط، والأحساس العروبي العميق لديها، لكننا كنا نقرأ الممحو وقتها بالرغم من صغر سننا، إلا أننا كنا وقتها أنا وعدد من طلاب المدرسة في الصفوف العليا في المدرسة، وكنا نعرف من خلال قرائاتنا ميول الشاعرة، وتبنيها الفكر القومي الناصري وليس البعثي، فقد قرأنا نصف مكتبة المدرسة، وكنت أرى وقتها، والآن أن نازك الملائكة تبقى ناقدة وأكاديمية أكبر منها شاعرة مبتكرة للشعر الحر الجديد بل هي قامت بمحاولة تجزئة الأبيات الشعرية العمودية التي تكتبها، وترسمها بعد ذلك ككلمات متناثرة، بينما أن ما كتبه عبد الوهاب البياتي وبدر شاكرالسياب وشاذل طاقة وبلند الحيدري، وغيرهم كان أكثر تحديثاً حقيقيا للشعر العربي، ويعود هذا إلى القراءة المعمقة للشعر الأجنبي متأثرين بما فيه من صور شعرية ورؤى شعرية مستحدثة، والاهتمام بشكل خاص بما قدمته المدرسة الفرنسية من شعر، والتي تعتبر وقتها من أهم المدارس الشعرية الحداثية في العالم، فقد قرأوا نماذج شعر مؤثر لبولدير وآرثر رامبو، أدولف دوماس، ألفريد دي فينيي، ألفريد دي موسيه، إدغار كينيه، إدموند روستان، لوتريامون ، وغيرهم.
المصفقون
كنت وقتها في الثالث المتوسط في ثانوية الأصمعي بالبصرة الفيحاء مدينتي الجميلة الهادئة، وكان درس اللغة العربية من أحب الدروس إلى نفسي خصوصاً مع أستاذ اللغة العربية أستاذ قحطان حميد، وكان وقتها شاباً خلوقاً متدينا من مدينة الأنبار» وطيلة الوقت كان يحاول المسكين إخفاء تدينه « ووقتها كانت الشعارات الثورية في أوج اندفاعها، وحيويتها، والحزبيون الجدد من حزب البعث يحاولون بكل سبل الأغراء والترهيب ضم العراقيين إلى حزبهم وبأي ثمن، ولم يهتموا بالنوع بل بالعدد، فهم ينظرون إلى جميع الرؤوس كغلة واحدة، وهذا سر تفوق المتدينين والشيوعيين عليهم في ذلك الوقت، فقد كان الأخيران يختاران النوعية التي يرجيان منها خيراً لجماعتيهما، بينما المتبعثون الجدد كانوا هم الذين ينتظرون خيراً، وعطايا من حزبهم وأجهزة الدولة، التي كان حزب البعث يدير مفاصلها، ولذلك فهم يحرثون على قدر الفائدة ، وربما هذا كان سببا مهماً لما أل إليه أمر الحزب بعد زمن قصير: كثرة المصفقين والمهرجين والانتهازيين، وندرة الكوادر الوطنية المؤمنة بشعارات حزبهم.
وكل ما أوردته ليس سوى توضيح لسلوك أستاذنا العزيز أستاذ العربية، فقد كان مستقلاً لكنه لا يني في المناسبات الوطنية أن يكون عريف الحفل، فيردد الخطب العصماء، وأشعار الشعراء المادحين للنظام وقتها، وكنت أحد الذين يرثون لحاله، فقد كنت ومجموعة من الطلاب نعرف دخيلة أستاذنا، وما يفكر به، وكنا لا نلومه بل نرثي لحاله، ولأحوالنا في ذلك الوقت، والبلاد على كف عفريت من منزلق خطر إلى آخر أشد منه خطراً، والمظاهرات تحدث بسبب ومن دون سبب، ونخرج نجوب الشوارع مرددين الشعارات الرنانة، وتعطل مصالح المواطنين، كأن طاحونة الثورية هبطت على رؤوس العراقيين فقط مستثينة جميع البشر سوانا.
الكوليرا
كنت أرى السرور على وجه أستاذي حين أقف أمام طلاب صفنا لأنشد مقطعاً من قصيدة “الكوليرا” للملائكة على وزن المتدارك، وهي ترثي موتى مرض الكوليرا في مصر، وليس موتى العراق، وما أكثرهم بعد الجائحة التي ألمت بالعالم العربي سنة 1947 التي تقول فيها :
“سكَن الليلُ أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
فى عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
فى كل فؤادٍ غليانُ
فى الكوخِ الساكنِ أحزانُ
فى كل مكانٍ روحٌ تصرخُ فى الظُلُماتْ
فى كلِّ مكانٍ يبكى صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ”
وعندها كان يتهدج صوتي، وتلمع الدموع في عيني، فقد كنت أخاف الموت منذ كنت صغيراً، وكلما ذكرته أو سمعت بذكره أنتابني الهلع على أحبتي: أمي وأبي وأخوتي، وعندها يطلب مني أستاذ قحطان الجلوس شاكراً... الله يرحم الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة، التي نفخر بها قامة من قامات الشعر العراقي والعربي...
كاتب مقيم بالمغرب