المواطنة والهوية الوطنية.. ركائز بناء الدولة المستدامة
نوري صباح الدليمي
رغم عراقة العراق وجذوره الضاربة في عمق التاريخ، وحضاراته التي شهدت عصورًا من التقدم والازدهار، يقف اليوم عند مفترق طرق، كما وقف مرارًا عبر تأريخه، لكنه كان دائمًا ينهض أقوى. فالأمم العظيمة لا تُقاس بما تواجهه من أزمات، بل بقدرتها على تجاوزها. واليوم، في ظل تداخل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبرز السؤال الأهم: كيف نستعيد استقرار العراق وهيبته، ونبني دولة قادرة على تجاوز المحن وتحقيق تطلعات شعبها؟ إن الإجابة، رغم تعقيد المشهد، تبقى واضحة لكل من ينظر بعين الإنصاف والمسؤولية؛ فلا استقرار دون مواطنة حقيقية، ولا دولة عادلة دون سيادة القانون، ولا مستقبل مستدام دون عدل يُنصف المظلوم، ويردع الظالم، ويضمن أن تكون الحقوق مكفولة لكل أبناء هذا الوطن بلا تمييز.
المواطنة ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، ولا بطاقة تعريف تتيح للفرد العيش داخل حدود جغرافية، بل هي شعور متجذر بالانتماء والمسؤولية، هي أن يجد كل عراقي نفسه في هذا الوطن دون أن تطارده أسئلة الهوية والانتماء، أن يشعر بأن العراق له جميعًا، لا لفئة دون أخرى، وأن كرامته مصونة وحقوقه محفوظة، وأن أداءه لواجباته هو جزء من عقد اجتماعي يحترمه الجميع. فلا يمكن أن تستقر دولة حين يكون ولاء أبنائها لأي شيء آخر غير وطنهم، ولا يمكن أن ينهض مجتمع إذا كان الفرد فيه ينظر إلى شريكه في الوطن من زاوية الاختلاف لا التوافق.
قوانين مصالح
حين نتحدث عن الدولة المستقرة، فإننا لا نتحدث عن وطن تُدار شؤونه بالمساومات السياسية، ولا عن مؤسسات تُخضع القوانين للمصالح الضيقة، ولا استغلال المنصب وكانه غنيمة يورث خيرها المسؤول لمن بعده، بل عن دولة يكون فيها القانون هو المرجعية العليا، يحكم بعدل، يُطبَّق بلا انتقائية، يكون درعًا لحماية الأبرياء، وسيفًا على رقاب الفاسدين، فالدول لا تُبنى على التسويات العابرة، ولا تُصان حقوق شعوبها بالأحكام المجاملة، بل بسلطة قانون عادلة لا تخضع للضغوط، ولا تُفرِّق بين فرد وآخر إلا بميزان الحق. وما قيمة القانون إن لم يكن العدل روحه؟ فالدولة التي تريد الاستدامة لا بد أن تجعل العدل دليلها لذلك، أن تضع كل فرد في موضعه الطبيعي، أن تعوّض من ظُلم، وتعاقب من أفسد، وتضمن تكافؤ الفرص للجميع. فكم من دول انهارت لأن الظلم استشرى فيها، وكم من انظمة سقطت حين أصبح العدل وجهة نظر، تُكيّف وفق المصالح!
العراق اليوم بحاجة إلى وقفة صادقة، تعيد ترتيب الأولويات، وتضع المصلحة الوطنية أولاً، بحاجة إلى مشروع وطني يُعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويؤسس لحياة سياسية نظيفة، تكون المواطنة فيها المعيار الأول، والقانون هو الحكم الفصل، والعدل هو الضامن لحاضر مستقر ومستقبل مزدهر. لا بد لجميع الفعاليات السياسية والمجتمعية أن تعي إننا أمام مسؤولية تاريخية، فلا مجال للعودة إلى الوراء، ولا بديل عن العمل المشترك من أجل عراق يحتضن أبناءه جميعًا دون تفرقة، عراق لا مكان فيه للفساد والمحاصصة والطائفية، عراق نبنيه بالإخلاص، لا بالشعارات، وبالعمل، لا بالخطابات.
حفظ الله العراق وأهله..
وزير التخطيط الأسبق