الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في الذكرى الخمسين لرحيل أم  كلثوم.. التجديد في الأغنية العربية من الكلاسيكية إلى الحداثة

بواسطة azzaman

في الذكرى الخمسين لرحيل أم  كلثوم.. التجديد في الأغنية العربية من الكلاسيكية إلى الحداثة

عصام البرّام

لعبت أم كلثوم دورًا محوريًا في تطور الأغنية العربية، حيث انتقلت بها من الشكل التقليدي المتمثل في الموال والطقطوقة إلى أسلوب أكثر حداثة يتناسب مع تطورات العصر. كان الغناء العربي في بدايات القرن العشرين يعتمد على القوالب التقليدية مثل الموشحات والقصائد المغناة بطريقة تقليدية، ولكن مع دخول أم كلثوم إلى الساحة الفنية، بدأت في تقديم رؤية جديدة للأغنية العربية تتناسب مع الذوق العام المتغير. ولدت أم كلثوم، وأسمها الحقيقي فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، في 31 كانون الاول 1898 أو 1904، وفقاً لبعض المصادر، في قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية في مصر. نشأت في بيئة متواضعة ضمن أسرة ريفية، وكان والدها منشداً في المناسبات الدينية، حيث تعلمت منه تلاوة القرآن وحفظه، ما ساعدها لاحقاً في أكتساب مخارج ألفاظ الحروف بدقة مع تناسب قدرة صوتية مذهلة.

كانت البداية الأولى لأم كلثوم بالغناء في سن مبكرة، عندما لاحظ والدها جمال صوتها، فكان يصحبها معه للغناء في المناسبات الدينية والمواسم. ومع الوقت، لفتت موهبتها الأنظار، مما دفع أسرتها الى الانتقال للقاهرة في أوائل العشرينات، حيث بدأت مشوارها الفني الحقيقي.

بدأت أم كلثوم مسيرتها بالغناء في شكل الطقطوقة، وهو القالب الغنائي الذي يعتمد على تكرار لكن مع نضوج تجربتها، انتقلت إلى القصائد المغناة بأسلوب مبتكر حافظ على أصالة اللحن مع تطويره بأسلوب أكثر حداثة، حيث قدمت القصيدة بإيقاع أكثر سلاسة وسهولة في التلقي دون الإخلال بجوهرها الفني. لقد حرصت أم كلثوم على أن تكون في طليعة الحداثة الفنية، وكانت تختار ألحاناً تعكس تطور الموسيقى العربية مع القصيدة العربية، وقد نجحت في إحداث نقلة نوعية في الأغنية العربية عبر مراحل مختلفة.

ففي أغنياتها اللاحقة، أستعانت أم كلثوم بفرق موسيقية تستخدم الآلات الحديثة وإدخال النوزيع الموسيقي المتطور مثل الكيتار الكهربائي والبيانو، مما أعطى لأغانيها بعداً عالمياً دون أن تفقد هويتها العربية، إذ أصبح الغناء أكثر مرونةً، حيث تطور من الأداء التقليدي المعتمد على التطريب الطويل إلى أداء درامي يعكس المشاعر بأسلوب أكثر حداثة.

بعد إنتقالها الى القاهرة، بدأت أم كلثوم في تكوين فرقتها الخاصة عام 1926، وبدأت بتعاونها مع مجموعة من أبرز الشعراء والملحنين الذين أسهموا في تشكيل مسيرتها الفنية، وخلال الثلاثينات من القرن الماضي، أصبحت نجمة الغناء الاولى في مصر، خاصة بعد تعاونها مع كبار الشعراء مثل أحمد رامي الذي كتب لها أكثر من 100 أغنية، وبيرم التونسي، وأحمد شفيق كامل و مرسي جميل عزيز وإبراهيم ناجي وغيرهم.

تميزت أم كلثوم بأسلوبها الغنائي الفريد، حيث كانت تؤدي الأغنية الواحدة في حفلاتها بأسلوب الأرتجال والتطريب، ما جعل الجمهور يعيش كل كلمة بأحساس عميق، كانت حفلاتها الشهرية التي تُبث مباشرة عبر الإذاعة المصرية حدثاً ثقافياً ينتظره الملايين في العالم العربي.

لقد أثّرت أم كلثوم الساحة الغنائية بتعاونها مع أعظم الملحنين في عصرها، ومن أبرزهم محمد القصبجي، حيث ساهم في تقديم أم كلثوم للجمهور بأسلوب موسيقى متطور، إذ قدم لها ألحاناً متميزة مثل (إن كنت أسامح) و (رق الحبيب)، وكان له دور كبير في تطوير أدائها الفني.

أما الملحن رياض السنباطي، حيث يعد واحداً من أهم الملحنين الذين رافقوا أم كلثوم طوال مسيرتها الفنية، حيث قدم لها أغنية (الاطلال) و(سلوا قلبي) و(نهج البردة)، وكان مسؤولاً عن تقديم ألحان قوية من القصائد الشعرية التي حملت الطابع الشرقي الأصيل، حيث مزج بين الأسلوب الطربي التقليدي مع التطورات الموسيقية الحديثة.

في حين قدم لها الملحن الشيخ زكريا أحمد، مجموعة من أجمل الالحان التي تمتاز بالطابع الشعبي، مثل أغنية (حبيبي يسعد أوقاته) و (أنا بانتظارك) وغيرها، الذي ساهم في ترسيخ هويتها الفنية في بداياتها الاولى.

ويعد موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، رغم تأخر التعاون بينهما، إلا أن لقائهما الفني أثمر عن روائع الأغاني مثل أغنية (أنت عمري) و (هذه ليلتي) و (فكروني)، حيث مزج عبدالوهاب بين الطابع الشرقي والكلاسيكي الغربي، ما أدى الى تجديد أسلوب أم كلثوم وإضفاء لمسة عصرية أكثر حداثة على أغانيها. حيث خاضت تجربة الحداثة الموسيقية، وتم بأدخال بعض العناصر الغربية مثل التوزيع الموسيقي الاوركسترالي في الأغاني.

لم تكن أم كلثوم مجرد مؤدية للأغاني، بل كانت شديدة الحرص على إختيار كلمات أغانيها بدقة، مما جعلها تتعاون مع نخبة من الشعراء الكبار، وتتذوق معنى الكلمة والجملة الشعرية وموسيقى المفردة في نص القصيدة، وأحيانا تسعى مع كاتب الكلمات في التدخل بتغيير بعض المفردات وسياقها بعد الإستئذان منه.

كان لتجديدات أم كلثوم في الأغنية العربية تأثيراً كبيراً على المطربين العرب الذين جاؤوا بعدها، حيث أصبحت نموذجاً يُحتذى به في الأداء والأختيار الفني الدقيق، ومن أبرز المطربين الذين تأثروا بها ؛ وردة الجزائرية إذ تأثرت بأسلوبها الغنائي وأعتمدت على التعاون مع نفس الملحنين مثل بليغ حمدي، مما جعل أعمالها تحمل بصمة قريبة تقرياً من مدرسة أم كلثوم.

كما سارت المطربة نجاة الصغيرة على خُطى أم كلثوم من حيث التركيز على الأغاني الطويلة ذات الطابع العاطفي العميق. وظهرت أيضاً المطربة السورية ميادة الحناوي كمطربة ذات طابع كلثومي واضح، خاصة في أدائها للأغاني الطربية الطويلة وتعاملها مع الملحن بليغ حمدي.

وليس من الغريب إن المطرب كاظم الساهر تأثر بأسلوبها في تقديم القصائد الفصيحة بالأضافة الى تأثره بالعندليب عبدالحليم حافظ، وذلك من خلال أعماله المستوحاة من قصائد الشاعر العربي نزار قباني، والتي كانت أكثر قرباً للمستمع العربي لما تحمل من مفردات الفصحى العربية التي يفهمها الجمهور العربي في كل أرجاء وطننا العربي

ورغم غناء أم كلثوم باللغة العربية، إلا إنها وصلت بصوتها الى آفاق العالمية، إذ كان لإتقانها للأداء ورصانة موسيقاها من العوامل التي جعلتها معروفة حتى خارج الوطن العربي، حيث تمت دعوتها للغناء في دول غربية فضلاً عن الدول العربية، وأشاد بها فنانون عالميون، حتى أن بعضهم قارنها بكبار مطربي الأوبرا العالمية.

ونجحت أم كلثوم في تحقيق معادلة صعبة بين الحفاظ على التراث الموسيقي العربي وتجديده بما يتلاءم مع التطورات الحديثة، مما جعلها تتربع على عرش الغناء لعقود طويلة. لم تكن مجرد مطربة، بل كانت مدرسة في الأداء والتعبير الفني، وتركت بصمة لا تُمحى في تأريخ الموسيقى العربية، ما جعل صوتها خالداً يتجدد مع كل جيل.

لقد حظيت أم كلثوم بتكريمات واسعة النطاق من ملوك ورؤساء الدول العربة والأجنبية، تقديراً لموهبتها ومكانتها الفريدة في العالم العربي، فالملك فاروق ملك مصر، منحها وسام الكمال، وهو أرفع وسام يمنح للنساء في مصر، أما الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فكانت من أقرب الفنانين إليه، وقد منحها العديد من الأوسمة، وشجعها على تقديم الأغاني الوطنية التي أصبحت جزءاً من تأريخ مصر الحديث. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام، أن نتذكر أغنيتها الوطنية الرائعة (بغداد ياقلعة الأسود) التي غنتها لثورة 14 تموز في عام 1958، كما كرمها ملك السعودية الراحل فيصل وأستقبلها أستقبالاً مهيباً، حيث كان من أبرز المعجبين بصوتها، كذلك تكريمها من الملك الحسن الثاني ملك المغرب، أما الرئيس الفرنسي شارل ديغول، فقد أشاد بها وأعتبرها من الأصوات الرائعة في العالم، كذلك الحال تم تكريمها من الاتحاد السوفيتي السابق ودعوتها لزيارة موسكو.

تعد أم كلثوم أيقونة الطرب العربي وأحد أعظم الأصوات التي عرفتها الموسيقى العربية في التأريخ الحديث والمعاصر، كما تعد رمزاً للفن الأصيل والتراث الموسيقي العريق. فهي أستطاعت بصوتها وأدائها المتقن أن تتربع على عرش الغناء العربي لعقود، حاملة لواء الكلمة الراقية واللحن العذب، إذ لم يكن تأثيرها مقتصراً على مصر وحدها، بل أمتد ليشمل العالم العربي والعالم بأسره، حيث تركت إرثاً فنياً خالداً لا يزال حياً في قلوب محبيها حتى اليوم.

إن أم كلثوم، ليست مجرد مطربة، بل هي ظاهرة فنية خالدة، أستطاعت بصوتها الساحر وأدائها المتقن أن تبقى في وجدان الشعوب العربية جيلاً بعد جيل. إنها مثال للإلتزام بالفن الرفيع، والإبداع الذي يبقى في وجدان الشعوب. هكذا ستظل أم كلثوم إسماً محفوراً في تأريخ الموسيقى العربية، كرمز للغناء الأصيل والإحساس العميق الذي تجاوز حدود الزمن.


مشاهدات 96
أضيف 2025/02/09 - 4:55 PM
آخر تحديث 2025/02/11 - 4:42 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 122 الشهر 5633 الكلي 10401004
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/2/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير