أعمال كريم العامري.. الجماليات المفككة في التشكيل وازاحة مركزية الخطاب
رياض الدليمي
ان محنة العامري كريم تكمن بفقدهِ لمستقرٍ روحي وفكري ووجودي يلجأ اليه ليشكل نصوصه البصرية ، فقد خذله التاريخ والواقع والفلسفة ، وقد خذلته الايدلوجيا والميتافيزيقا ولم يسعفه الحدس أو ملكته العقيلة وارادته ليدرك اللا مدرك ويعي الحتميات الاجتماعية والثقافية السائدة رغم مشاهدته لها وتمثلها في يومياته وفي ذاكرته ووجدانه وخياله ، لذا قد ارتكن بعد مخاض عسير الى تدمير محسوساته واعادة تشكيلها على سطوحه التصويرية برؤى أخرى ، فاتخذ من الخراب والخذلان قراءة مغايرة للتاريخ والواقع والوجود ، فأحال كليّاته الى قطع دومينو وجزيئات تُصغر وتكبر حجومها على هذه السطوح حسب الحيّز المتاح لها واللحظة التاريخية التي تشكلها ، وخاصة أن هذه الجزيئات قد ازدحمت وتناثرت في خاطره ووعيه ، انها اسئلة قلقة قد أتعبته فلم يجد حدودا مشتركة أو صلّة بين الميتافيزيقيا والعقل كظاهرة سائدة وبين وعيّه الذي أقصاه عن هذه المفاهيم أو الحياة والواقع الذي يعيشه ، فمن هنا حصل شرخ كبير بين حياته وواقعه ووعيه الرافض لسيادة الخطاب ومركزيته كيفما كان ومهما كانت محمولاته السياسية والاجتماعية والثقافية ، فغاص بالجزء وترك الكل حتى غدت سطوح خاماته ساحة حروب مظلمة وأفكار متلاطمة ومتصارعة ومتناقضة ، انها فعلا محنة المثقف في زمن الوعي والاكتشاف والجرأة والمقاربة للوجود بفعل المتخيل أو الارادة والمعرفة ، لقد تفاقمت محنته وفتكت بمخيلته فلم تعد قادرة على اِيجاد أجوبة تمنحه بعض النفس والراحة ، لذا اشتدت ألوانه وتكثفت وتعددت بعتمتها وبوحشيتها وبريقها ، وتراها في أمكنة أخرى قد جردت من تكويناتها وأفصح عنها العامري بمظهريتها وواقعيتها لتتسق مع لحظتها وأحداثها ، لقد ترك خطوطا وألوانا وفضاءات في بعض لوحاته ، واتخذ آلية "الفوتو شو " أو اللصق والتقطيع والجرافيك تقنيات مساعدة ليصل الى عمق الأشياء والأجزاء ويفكك المفكك ليدرك حقيقة يرمي الوصول اليها .
رحلة كريم العامري كرحلة كلكامش المتعبة التي جال فيها كل الأصقاع باحثا عن خلوده والوهيته ، ويبعد عنه شبح الموت طامعا أن يلبسه الرّب تاج العرش الأزلي وليحكم باِسمه أرض بابل ويمسك بمصائر الناس والعباد ولتغني له الجميلات ويرقصن في مناسكهن لتشبع غريزته وفحولته ولتتناسل منه البشرية .
ان آلية انشاء وإعمار فضاء لوحاته التي ارتى أن تكون جدارا في أغلب أعماله الأخيرة قبل وفاته ، فشيّد كتله وتكويناته محاولا في تجريباته واشتغالاته أن يحيل الوجود بكليته إلى أجزاء مفتته ليصل إلى أعماق الشي ، وليحول محمولات الجزء الى ذرات ودقائق فيضيء محتواها المعرفي ويكشف كنهها وكينونتها وأسرارها لأن الجزء حسب فهمه ومخياله هو الكل في كليّة محتوياته ومنشئياته ، ولا يمكن أن يكون وحدة كليّة موضوعية مادية ملموسة بدون الجزء من هذه الوحدة الوجودية ، وبمعنى آخر أن الوجود الظاهر المرئي الحسي المادي والوجود الميتافيزيقي غير المرئي يشكلان ذات العناء الفكري والنفسي له ، لذا جاءت تجريداته كتلا هندسيا تتراكم فوق بعضها البعض بتراتبية تبدأ من لحظة النشوء والتكوين السفلى لتتجه وتعتلي المساحات الفوقية من فضاء لوحاته ليشير الى هذا التراكم الزمني الوجودي المحتدم في غموضه ، لذا يُعد التجريد لديه تعبيرا في شكله رغم دلالاته الشكلية التي لا تقبل التأويل ، فقد تعمد الفنان أن يعطيه وصفهُ المادي الحسي وهويته وتعريفه دون لبس أو التباس .