قامات عراقية خالدة
الحسني مؤرخ الدولة والسياسة في الزمن الحديث
صلاح عبد الرزاق
عبد الرزاق الحسني (1903- 1997) مؤرخ وموسوعي قدم تاريخ الوزارات العراقية وتاريخ العراق السياسي الحديث وتاريخ ثورة العشرين. اعتمد في دراساته على الوثائق والبيانات والتقارير الرسمية وما نشر في الصحف العراقية والأجنبية مما يهم القضايا والوقائع العراقية طوال نصف قرن من الإنتاج المعرفي والتاريخي. فقد كتب التاريخ السري للدولة العراقية الحديثة منذ ولادتها عام 1920 وحتى عام 1958 بسقوط الملكية وقيام الجمهورية. بقيت كتبه أرصن وأوسع مصادر عن التاريخ العراقي الحديث.
الأسرة والنشأة
ولد عبد الرزاق مهدي صادق هادي آل عيسى في بغداد عام 1903 لأسرة شيعية ، وكات والده يعمل تاجراً متوسطاً في سوق العطارين. وقد ورث مهنته عن عائلته التي مارست العطارة منذ وقت طويل فسميت بآل العطار. كان من عائلة اشتهرت بقرض الشعر وتعاطي الأدب إلى جانب توارثها مهنة العطارة.
تعلم مبادئ القراءة والكتابة في جامع الخفافين الذي بنته زمرد خاتون أم الخليف العباسي الناصر لدين الله. وكانت هناك مدرسة دينية سميت مدرسة جامع الصاغة ، أو مدرسة جامع الخفافين. وقد ضمن مكتبة عامرة بالمخطوطات القيمة. فكان ذلك أول احتكاك مباشر للحسني بهكذا مكتبة عامة في حياته.
دخل الحسني مدرسة (مكتب الترقي الجعفري العثماني) والتي أسسها الزعيم الوطني جعفر أبو التمن عام 1908. وتعلم الحسني فيها مبادئ اللغتين التركية والفرنسية إلي جانب اللغة العربية. بسبب الحرب العالمية الأولى عام 1914 تعثرت الدراسة في معظم المدارس الحكومية والأهلية بسبب التحاق أساتذتها بالجندية ، وطبيعيا تعثرت الدراسة في مدرسته فانتقل بهم احد الأساتذة من بناية المدرسة في سوق الغزل الى جامع الحاج داود في محلة الهيتاويين . ولما احتل الجيش البريطاني بغداد في فجر 15 جمادي الاول 1335 هــ (11اذار 1917 ) انتظمت الدراسة من جديد وأبدل اسم مدرسته الى اسم (المدرسة الجعفرية ) وجيء لهم بأساتذة أفاضل تخلوا عن الجيش العثماني المنسحب ومنهم الحاج كمال والد الضابط صبيح الحاج كمال ، وعبد الستار الشيخلي والد الوزير السابق عبد الكريم الشيخلي ، وعلي مظلوم والد المهندس مدحت علي مظلوم ، إضافة الى الأساتذة زكي الخياط وجعفر حمندي ومحمد حسن كبة وعبد المجيد لاوي وعباس مهدي وعلي البازركان وغيرهم..
وقد تخرج من هذه المدرسة العديد من الساسة والمفكرين العراقيين أحمد فياض المفرجي (1936- 1996) ، أحمد زكي الخياط (1897- 1974) ، جعفر الخياط (1910- 1973) ، جعفر حمندي (1894- 1952) ، جليل شعبان الحميري (1937- 2021) ، رؤوف البحراني (1897- 1963) ، صادق البصام (1897- 1960) ، صالح جبر (1896- 1957) ، صالح جبر (1896- 1957) ، عبد الرزاق الأزري ، عبد الأمير علاوي (1912- 1998) ، علي الحيدري (1936- 2018) ، مصطفى جواد (1904- 1969) ، مصطفى جواد (1904- 1969) ، خيري العمري (1926- 2003) ، كامل حسن البصير (1933- 1987) ، خالد الرحال (1926- 1986) و الفنان طه سالم (1930- 2018).
في عام 1920 انتقل الحسني إلى مدينة النجف الأشرف مع عائلته ، بعد أن اضطر والده إلى مغادرة بغداد بسبب ظروف خاصة ، يوضحها الحسني بقوله:
(كان الوالد المرحوم يسكن في الشورجة سوق العطارين ، وقد اشترى ذات يوم داراً من أحد تجار المحلة ، ما زلت أتذكر أنه أقام فيها عشرة أيام مجلساً حسينياً تبركاً بهذا التملك ، ثم ظهر للبائع أنه كان مغبوناً في عملية البع هذه ، فاسترد ما باعه بطرق غير مشرفة. ولما كان والدي معروفاً بوداعته ومسالمته ، ضجر من البقاء في بغداد ، واتخذ من دار في محلة العمارة بالنجف الأشرف سكناً جديداً له ، وسافر اليها بعياله وأولاده وأثاث بيته).
وتشاء الصدف أن يُعيّن في ذلك الوقت علي مظلوم قائممقاماً لقضاء النجف الأشرف ، وكان أحد أساتذة الحسني في المدرسة الجعفرية. التقاه الحسني في الصحن الحيدري ، فقم بتعيينه معلماً في المدرسة الأميرية التي افتتحت فور تسلم القائممقام وظيفته الجديدة. باشر الحسني بتعليم التلاميذ اللغة الإنكليزية. وكان معه أساتذة آخرون منهم الكاتب جعفر الخليلي والشيخ حسن الجواهري ، ومديرها مهدي الهلالي.
مشاركته في ثورة العشرين
وعندما اندلعت ثورة العشرين فقد تحمس لها الشاب الحسني ، فشارك في التظاهرات والتجمعات التي شهدتها النجف الأشرف. كان يوزع المنشورات ، ويلصقها على الجدران وأبواب المساجد. وتنامى دوره ليصبح واحداً من رجال إعلام الثورة القلائل ، بعد اشتراكه مع محمد عبد الحسين الكاظمي في اصدار جريدة (الاستقلال) التي شغلت موقعاً هاماً ، خاصة بعد توقف صحيفة (الفرات) صحيفة الثورة الأولى في 15 أيلول 1920 ، وكانت قد صدر العدد الأول في 1 تشرين الأول 1920. كان محمد عبد الحسين الكاظمي هو المدير السياسي ورئيس التحرير ، وعبد الرزاق الحسني الذي ورد اسمه عبد الرزاق البغدادي مديراً لشؤونها. وتسمى أسرة الحسني في النجف بـ (آل البغدادي) ، ولا يزال عدد غير قليل من أقربائه يعيشون في هذه المدينة . كانت مهمة الحسني في الجريدة تنظيم أوراقها والرسائل التي تصلها ، والتعليق عليها ، وتوجيه العمل بالشكل الذي أسهم في تسهيل طبعها وتوزيعها. وقد تحمس الحسني لمهنته الجديدة ، إذ وجد فيها ضالته المنشودة ، لترسم له بداية طريق جديدة . فبسرعة (تعلم صبر القلم الثائر ، وكتب أولى حروف هويته في هذه الثورة ، وأولى دموعه وآلامه وأفراحه). بعد انتهاء ثورة العشرين عاد الحسني إلى بغداد.
التوجه نحو الصحافة
دخل الحسني طالباً في الصف الثاني بمدرسة دار المعلمين العالية التي كانت تجاور مدرسة الخاتون في محلة الفضل القريبة من الميدان ، وعرفت فيما بعد بدار المعلمات. بعد اجتيازه امتحاناً لطالبي الدخول إلى الدار بنجاح أهّله للقبول في ذلك الصف مباشرة.
وأثناء دراسته في دار المعلمين عام 1922 كتب الحسني أول كتاب له بعنوان (المعلومات المدنية لطلاب المدارس الابتدائية ). قام بطبعه له مدرّسه بمطبعة (الفلاح) على نفقته الخاصة ، بعد أن هيأ الحسني الورق اللازم لطبعه ، تلطفاً منه وتشجيعاً . جاء الكتاب في (56) صفحة من القطع المتوسط ، وهو كتيب مدرسي كتبه الحسني بالاستعانة بالكتب المدرسية الأخرى وفقاً لمنهج وزارة المعارف آنذاك. وكانت موضوعاته أشبه بموضوعات مادة التربية الوطنية والاجتماعية المتداولة في المدارس العراقية. في مطلع عام 1923 وأثناء دراسته في دار المعلمين اتخذ الحسني لنفسه لقب (الحسني) ، بعدما شاع استعمال الألقاب بين الناس بين عامي 1922 و1923 ، وذلك بوصفه من سلالة الامام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، فصار يُعرف به ويشتهر. وأخذ يوقع به مقالاته المنشورة في جريدة (المفيد) لصاحبها إبراهيم حلمي العمر ( 1890- 1942). ونظراً لإعجابه بمقالاته ولخبرته السابقة في العمل الصحفي في جريدة (الاستقلال) ، عيّنه العمر بعد تخرجه من الدار محرراً لإدارة الجريدة ومندوباً متجولاً لها عام 1924 ، يقوم بجباية بدلات الاشتراك من المشتركين ، ويوافي الجريدة برسائل مملوءة بالأخبار والحوادث.
كانت (المفيد) من الصحف الوطنية البارزة والتي انتقدت سياسة الانتداب البريطاني وطالبت بإلغائه ، وطالبت باستقلال العراق. لذلك تعرضت إلي مضايقات الإدارة البريطانية الحاكمة التي قررت تعطيلها لمدد متفاوتة أملاً في إسكاتها عن خطها الوطني . ولم تنفع تلك التدابير مع العمر فقررت سحب امتيازها بشكل نهائي في 24 كانون الثاني 1926 بحجة أن صاحبها لم يكن من حملة الشهادات العالية. وهو شرط وضعته السلطة على الصحفيين السياسيين آنذاك.
من خلال تجربته وعمله في جريدتي (الاستقلال) و (المفيد) أدرك الحسني أن من أهم متطلبات العمل في ميدان الصحافة ، وما تتعرض له الصحف من التوقيف ، وسوق أصحابها إلى المحاكم ، وتعرضه هو شخصياً عام 1924 . كل ذلك جعل الحسني يفكر في إصدار جريدة لا تتناول الأمور السياسية بشكل مباشر ، كي يتفادى ما تعرضت له صحيفة (المفيد) ، وانصب تفكيره في صحيفة تعنى بالتاريخ والأدب. في أيلول 1925 أصدر الحسني في بغداد العدد الأول من جريدة (الفضيلة) ، وجاء في العدد الأول أنها (جريدة أسبوعية أدبية انتقادية.
تاريخية أرّخت بالتقويمين الهجري والميلادي ، أراد منها الحسني أن تكون منبراً عاماً يحارب الرذيلة ، وينتقد مظاهر الفساد في المجتمع ، ويسعى إلى الحث على الأخذ بأسباب الفضيلة ، ولهذا سماها بهذا الاسم.
استمرت (الفضيلة) بالصدور حتى مطلع عام 1927 ، عندما أوقف الحسني إصدارها بعد أن تهيأت له الفرصة لإصدار جريدة أدبية في مدينة الحلة في عهد متصرفها آنذاك عبد العزيز المظفر الذي سعى لتوفير مستلزمات النهوض الحضاري في مدينته ، ومنها الصحافة.
يبدو أن تلك الفرصة قد تفاعلت مع رغبة قديمة في نفس الحسني كانت تحدوه لإصدار مثل هذه الجريدة في ربوع الفرات ، حيث كتب في العدد الأول من جريدة (الفيحاء) : (لقد كانت لنا أمنية ، وهي إصدار جريدة في ربوع الفرات تكون حافلة بالمواضيع الراقية).
اشترى الحسني مطبعة خاصة به من المال الذي تركه له والده الذي توفي عام 1926 ، فأصدر (الفيحاء) مرتين في الأسبوع ، تهتم بالأدب العربي والتاريخ .
لم يفد الحسني ابتعاده عن السياسة في تفادي المشاكل والعراقيل. إذ كتب مقالاً عن علماء الحلة ودورهم في عام 656 هـ عندما احتل هولاكو بغداد ، استفتى علماء المدرسة المستنصرية في بغداد وسألهم: أيهما
أفضل المسلم الظالم أم الكافر العادل؟ فأحجم الفقهاء عن إجابته لأنه فخ. وكان السيد العابد الزاهد رضي الدين علي بن طاووس الحلي حاضراً ، فانبرى بالجواب: الكافر العادل أفضل من المسلم الظالم!!!
أثار المقال وخصوصاً تلك الفقرة الحقد في نفوس البعض في مديرية المطبوعات ، وزعمت أن يتضمن إثارة العواطف ويوقظ الأفكار. قرر مدير المطبوعات طه صالح الفضيل الراوي (1890 – 1946) سحب امتياز الجريدة ومصادرة المطبعة. في هذه الأزمة بادر الحسني بزيارة رئيس الوزراء جعفر العسكري ، فأمر بإعادة المطبعة ، والايعاز إلى وزير ماليته ياسين الهاشمي ، الذي كان الحسني على علاقة به منذ أيام عمله في جريدة (المفيد) ، وأسهم في توطيدها إبراهيم حلمي العمر ، صاحب الجريدة وصديق الهاشمي ، بإيجاد وظيفة للحسني في ديوان وزارته. وهكذا عيّن الحسني عام 1927 معاونا لمحاسب وزارة المالية ، وبراتب مقداره (140) روبية.
الحسني والمس بيل
يقول الحسني:
(كنت أصدر جريدة أدبية اجتماعية باسم (الفضيلة) ، وكانت في الكاظمية مشكلة انتخاب السيد جعفر عطيفة ، أو أح أفراد آل الجلبي للتنافس على منصب رئيس بلدية الكاظمية. انتهز السيد محمد عبد الحسين علاقتي معه عام 1920 يوم كنا في النجف. وجاء إلى مقر جريدتي ، فاتخذ منها منبراً للتشهير بآل الجلبي تأييداً للسيد جعفر عطيفة. وكاد هذا التشهير يؤدي بي إلى السجن بوصفي مديراً مسؤولاً للجريدة. استغل السيد عطيفة علاقته بالمندوب السامي ، فأخذني إلى المس بيل فكتبتْ كتاباً إلى حاكم جزاء بغداد وهو يومئذٍ السيد شهاب الدين الكيلاني ، فلما أفرج عني ، ميّز القائمون ضدي الحكم إلى محكمة الجزاء الكبرى التي يرأسها حاكم بريطاني ، فأيدت محكمة الجزاء الكبرى قرار الافراج وانتهت المشكلة بسلام. كما انتهت الانتخابات في الكاظمية بفوز السيد جعفر عطيفة ، لأن مطلوب (مدعوم) من الانكليز. ومن ذلك الحين أخذت علاقتي بالمس بيل تذكو وتنتشر بحيث حيكت حولها روايات لا صحة لها ، وهي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة).
الحسني مراسل لجريدة الأهرام
يقول الحسني عن قصة ترشيحه ليكون مراسلاً لجريدة الأهرام المصرية في العراق:
(كان عثمان قاسم السوري الجنسية يعمل مراسلاً لجريدة الأهرام في العراق . فجأة ترك العراق ، فتلقى ياسين الهاشمي رسالة من أسعد داغر المحرر في جريدة الأهرام ، يذكر فيها انقطاع عثمان قاسم عن مراسلة الأهرام ، وضرورة الاعتماد على شخص آخر ، وكنت المرشح).
مارس الحسني عمله مراسلاً للأهرام عام 1929 ، تعرف من خلاله على شخصية أخرى هي شخصية الملك علي (1879-1935) شقيق الملك فيصل ، الذي أبدى رغبته الذي أبدى رغبته في الاستفادة من صفة الحسني الصحفية لنشر ما يلائم سياسته الخاصة تجاه السعوديين الذين غصبوا ملكه وأبعدوه عنه. فأخذ الحسني يتردد عليه مستفيداً من ثقافته الواسعة ، فقد كان الملك علي شديد الورع ، ميالاً إلى الكتب ، وعارفاً بأمور الشريعة والدين.
بقي الحسني مراسلاً لجريدة الأهرام حتى أوائل عام 1933 ، حيث ترك هذه الوظيفة بسبب ما تعرض له من مضايقات نوري السعيد الذي يبد ارتياحاً لتردد الحسني على ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني اللذين كانا من أقطاب المعارضة السياسية لسياسة نوري السعيد ، وهكذا انتهت علاقة الحسني بجريدة الأهرام. وبذلك انتهت علاقة الحسني بالعمل الصحفي الذي أسهم كثيراً في تكوينه الفكري وصقل ثقافته وقلمه.
الحسني والمجالس العلمية والأدبية
مجلس الكرملي
كان الحسني يتردد على المجالس العلمية والأدبية منذ شبابه لما يجده من شخصيات ومواضيع علمية وأدبية. وأشهر تلك المجالس آنذاك مجلس الأب أنستاس ماري الكرملي (1866- 1947) ، وكان يعقد المجلس في ضحى كل يوم جمعة الساعة التاسعة صباحاً وحتى الساعة الثانية عشرة ظهراً. يرتاده العلماء والأدباء والباحثون والمؤرخون ، وفيهم الطبيب والصحفي والشاعر والقاص والفيلسوف ، من مختلف الأعمار والثقافات. وكان بينهم المسلم والمسيحي واليهودي ، ومن ملل ونحل مختلفة. بدأ (مجلس الجمعة) بالانعقاد عام 1922 في غرفة خاصة من غرف دير الآباء الكرمليين قرب محلة سوق الغزل ببغداد. وكانوا يستفيدون مكتبة الكرملي العامرة بالكتب المخطوطة والمطبوعة النادرة والمراجع العديدة في حواراتهم ومناقشاتهم.
كما فتح الكرملي مجلته المشهورة (لغة العرب) أمام الحسني لينشر فيها مقالاته عن المدن والقصبات العراقية التي نالت إعجاب وتقدير الكرملي. وكان الحسني يتناول في كل عدد لواء (محافظة اليوم) من الألوية وقد جمع الحسني تلك المقالات في كتاب أسماه (رحلة في العراق أو خاطرات الحسني) . وقد أهداه إلى الشيخ عداي الجريان نائب لواء الحلة ثم عضو مجلس الأعيان. وقد طيع الكتاب عدة طبعات ، وتضمن معلومات وافية عن المحافظات العراقية ومدنها الشهيرة ،وهي معلومات جغرافية وتاريخية وإدارية واجتماعية وأحوال العشائر والطرق والسيارات والسكك الجديد ووسائط النقل البرية والنهرية ، وكذلك الأوضاع السياسية والاقتصادية والزراعية والعلمية ، فكان بمثابة موسوعة عراقية رائدة.
مجلس الملك علي
لم يكن مجلس الجمعة المجلس الوحيد الذي ارتاده الحسني ، بل كان الحسني يرتاد مجالس أخرى ، منها مجلس الملك علي أكبر أولاد الشريف حسين شريف مكة ، وكان قد دعاه الملك فيصل الأول قد دعاه للإقامة في العراق. يصف الحسني مجلس الملك علي:
(وكان مجلسه في قصر عبد الأحد في كرادة مريم بجانب الكرخ ، مجلس أدب ورقة. وكان نجله الوحيد عبد الإله يحضر المجلس ، ولكنه يجلس في مؤخر الديوان قرب أحذية الزوار الذين ينتزعون أحذيتهم احتراماً وإجلالاً لصاحب المقام... كنت أحضر في هذا المجلس مرتين أو أكثر في الأسبوع ، >كنت إذا تأخرت أوعز الملك علي إلى من يتصل بي ويعاتبني على الانقطاع).
مجالس ثقافية في بغداد
كان مجلس العلامة محمود شكري الآلوسي (1857- 1924) يعقد في محلة العاقولية ببغداد ، وقد تعاقب على صدارته أولاده وأحفاده. وكان يحضره رواد العلم وأصحاب الفضل وطلاب المعرفة والأدباء والشعراء والوزراء.
وتردد الحسني أيضاً على مجلس فهمي المدرس (1873- 1944) في محلة البارودية ببغداد ، الذي كان يؤمه عدد غير قليل من العلماء والأدباء ورجال السياسة. وكان لهذا المجلس تأثيره على فكر الحسني الذي يقول عنه:
(كنت أتردد على مجلس السياسي والأديب والاكاديمي فهمي المدرس للاستفادة من كتابات صاحبه ، وما كان يدور في مجلسه من نقاش في المواضيع التي كانت تدخل في صميم عملي).
وتردد الحسني على مجلس السياسي والوزير والنائب السيد عبد المهدي المنتفجي (1890- 1972) في في الكرادة ببغداد ، مستفيداً من توجهات صاحب المجلس العامة له حيناً ، وتصويباته لآرائه حيناً آخر.
وتردد الحسني على مجلس المؤرخ والكاتب يعقوب سركيس (1875- 1959) في محلة المربعة ببغداد الذي كان يختلف إليه العلماء والأدباء والكتاب والصحفيين والمشتغلين في حقول التأليف . وكان لصاحب المجلس مكتبة حافلة بمراجع العلم والأدب وأمهات الكتب والمخطوطات.
الوظيفة الحكومية ومتاعبها
كانت تلك الوظيفة أول وظيفة حكومية شغلها الحسني في حياته ، وفتحت له آفاقاً للنضج والكتابة والتخصص. كما أتاحت له العمل والتعرف على مناطق مختلفة من العراق. وبسبب ماضيه السياسي والصحفي والفكري فقد صار تحت مراقبة أجهزة الأمن ، العائدة لوزارة الداخلية ، التي تابعت تحركاته واتصالاته. وكانت تكتب عنه تقارير سرية مضمونها أن (هذا الموظف يتدخل بالسياسة ، وذلك خلافاً للنظام الذي يمنع موظفي الحكومة من الاشتغال بالسياسة). وعندما تصل هذه التقارير إلى وزارة المالية تقوم بفتح تحقيق للتأكد من صحة المعلومات ، واذا لم تكن ذات أهمية ، فهناك وعد بتنبيه الحسني بالامتناع عن مثل هذا السلوك مستقبلاً.
وكان الحسني قد قام فعلاً بنشاط واسع في منطقة الفرات الأوسط تأييداً للمعارضة أثناء التي تفجرت في عهد الوزارة السعدونية الثالثة في مطلع عام 1928 بعد حل مجلس النواب ، ومحاكمة الشيخ ضاري والحكم عليه بالسجن المؤبد ، ثم وفاته المفاجئة بعد يومين من ايداعه السجن. الأمر الذي أثار الغضب وخرجت مظاهرة صاخبة.
لقد تعرض الحسني للسجن بسبب كتاباته أو مشاركته في تظاهرة. ففي أواسط نيسان 1931 تم احتجازه في الحلة بسبب المظاهرة التي شهدتها المدينة أثناء زيارة الملك فيصل الأول للمدينة. وفي 29 أيلول 1931 احتجز في بغداد لمدة أسبوع عندما علمت الأجهزة المختصة بنية تنظيم مظاهرة جماهيرية ضد وزارة نوري السعيد. وفي مرة تمت محاكمته في النجف الأشرف لكن القاضي نوري القاضي تعاطف مه فحكم عليه بغرامة قدرها (30) روبية. وكان مولود مخلص متصرف كربلاء ، وصالح حمام مدير الشرطة يناصبان الحسني العداء لكثرة انتقاداته. فقاما بتمييز الحكم لكن رئيس المحكمة ألغى التهمة وأبقى الغرامة.
بقي الحسني في وظيفة معاون محاسب بوزارة المالية حتى أواخر كانون الأول 1931 ، عندما عُيّ مديراً لخزينة لواء بغداد ، وبعد مدة نقل إلى مدير خزينة لواء ديالى ، وبقي فيه لمدة عام. ثم نقل إلى الحلة ، وبقي بهذا المنصب حتى عام 1938 ، ثم عُيّ مديراً لحسابات مديرية البريد والبرق العامة في بغداد ، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1941 حيث فُصل من الخدمة بسبب أحداث انقلاب مايس 1941 ، بسبب علاقة الحسني بقادة الانقلاب وخصوصا رشيد عالي الكيلاني. وكان الكيلاني في وزارته الأولى (20 آذار – 9 أيلول 1933) قد اعتمد على الحسني في تمشية قسم أعمال مكتبه كالرد على بعض الكتب السياسية والأدبية التي كانت ترد إليه من جهات مختلفة ، وتكليفه بقضاء بعض شؤونه العامة الأخرى.
مهمة سياسية
بعد الانقلاب انقطع الحسني عن التردد على الكيلاني ، فأرسل عليه وعتبه على الانقطاع ، ثم كلفه بالتجوال في ألوية العراق الجنوبية ثم الشمالية وإلى بلاد الشام لشرح أسباب وأهداف الانقلاب لحسن منطقه وإقناعه للآخرين. قام الحسني بالاتصال بكبار مسؤولي الإدارة في المدن والأقضية والنواحي التي يزورها لتشجيعهم على دعم الانقلاب.
وقام الحسني برحلة إلى بلاد الشام ، فزار دمشق وبيروت ، والتقى عدداً من الشخصيات الإعلامية والفكرية منهم الصحفي عفيف الطيبي ، والكاتب يوسف إبراهيم بك ، والشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة (العرفان) ، والشيخ سليمان الظاهر ، والشيخ أحمد رضا وهما من علماء النبطية جنوب لبنان.
أثارت زيارة الحسيني السلطات البريطانية ، واستجوبته السلطات الفرنسية أكثر من مرة أثناء مكوثه في الشام. وأجبر على العودة من بيروت إلى العراق عن طريق طرابلس وحمص وحماه وحلب ، ومنها إلى الموصل فبغداد ، حيث وصلها بعد القضاء على الانقلاب. ألقي القبض عليه بموجب مرسوم (صيانة الأمن وسلامة الدولة رقم 56 لسنة 1940).
معتقل الفاو والعمارة
بعد اعتقاله تم تسفير الحسني في 29 تشرين الأول 1941 إلى معتقل الفاو برفقة وجبة تضم (41) معتقلاً. وبعد مدة نقل منه إلى معتقل العمارة ، بشروط صحية صعبة . بقي الحسني ثلاث سنوات في المعتقل ، حتى إطلاق سراحه في 20 مايس 1944.
خلال فترة الاعتقال تعرف الحسني على الكثير من السياسيين المعتقلين ، وتداول معهم شؤون سياسية وفكرية ألهمته في بعض المؤلفات القادمة. فكتب في السجن كتاب (تاريخ العراق السياسي) بثلاثة أجزاء. يقول عبد الرزاق الحسني في مقدمة الكتاب:
(كانت ظروف الحرب العالمية الثانية قد أوجبت اعتقال عدد من الأعيان والنواب والوزراء ، والعلماء والساسة والأدباء ، والمدرسين والمحامين والأطباء ، وغيرهم. وكنت في عداد من أمضى سنوات هذه الحرب مع هؤلاء الرجال ، فدرست خلالها معظم ما كُتب عن (الدولة العراقية الحديثة) ، وقارنته بما جمعته من معلومات ومستندات في ربع قرن ، وانتهيت إلي وضع هذا المؤلف في ثلاثة أجزاء.
وقد أسعدني الحظ بأن تعرفت بالأستاذ الجليل محمد صديق شنشل في (معتقل العمارة) ، وكان قد وضع أطروحة في (سيادة الدولة العراقية) أيام دراسته في باريس ثم ساقه القدر إلى ما ساقني إليه قبل أن يتم طبعها. فكنا نقضي الساعات الطوال في استعراض فصول هذا الكتاب وتوجيهها توجيهاً علمياً قومياً. وكثيراً ما اضطرنا هذا التوجيه إلي كتابة بعض الفصول مجدداً .
ومن المهم أن أذكر هنا أنني كنت شرعت في نشر فصول هذا الكتاب في بعض المجلات العراقية والسورية والمصرية منذ خرجت من معتقل العمارة في منتصف شهر أيار من سنة 1945 ، لأستفيد من مطالعات القراء وإرشاداتهم ، فكان ما استفدته بهذه الوسيلة ، أموراً لا تنكر فوائدها).
وقد نال الحسني جائزة المجمع العلمي العراقي لعام 1949 على كتابه (تاريخ العراق السياسي الحديث).
الجدير بالذكر أن سياسة الحكومة مع المعتقلين كانت متسامحة ومرنة ، ومسؤولو السجن يلبون حاجاتهم ، يصف الحسني هذا التعامل فيقول:
(للحق أقول إن سياسة الحكومة مع المعتقلين ، فيما يتعلق بالقراءة والكتابة ، كانت سياسة سمحة منطوية على المساعدة . فكان المعتقلون يجلبون الكتب والمراجع بواسطة البريد الحكومي تحت سمع الحكومة وبصرها).
العودة إلى الوظيفة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 بانتصار الحلفاء ، شعر الموالون لبريطانيا داخل العراق بالقوة ، فلم يترددوا في إعادة الموظفين المفصولين بتهمة موالاة الانقلاب. فقد أعيد الحسني إلى وظيفته في 17 حزيران 1946 بوظيفة ملاحظ في شعبة الأمور الذاتية في مديرية البريد والبرق العام. ثم تم ترفيعه إلى منصب مدير هذه الشعبة في 6 تموز 1946.
في أوائل عام 1949 نُقل الحسني إلى ديوان مجلس الوزراء بمبادرة شخصية من رئيس الوزراء آنذاك توري السعيد. عمل في مجلس الوزراء العراقي مع الكثير من الوزراء والمسؤولين وعاملوه جميعاً معاملة حسنة، وهو يعد تلك الفترة من أجمل أيام حياته، وقد ذكر ذلك في مذكراتهِ قائلاً: (في شباط عام 1949 استدعاني الباشا نوري سعيد وقال لي: (بلغني أنك تنفق قسماً من راتبك في إفساد ضمائر بعض الموظفين بغية الحصول على بعض الوثائق لكتبك التي تؤلفها، وعليه قررت نقلك إلى ديوان مجلس الوزراء لتبحث عما تريد!! ثم أمر بان توضع تحت تصرفي أوراق القضية الفلسطينية، لكنه أسر إلى رئيس الديوان نوري القاضي أن يمكنني من الاطلاع على ما أريد من الكتب والوثائق، وهكذا منذ شباط عام 1949 عهد إليّ تنظيم سجلات خاصة بتاريخ الدولة العراقية على نمط المؤسسة العثمانية (وقائع نويس ، تعني المؤرخ العثماني المعين رسمياً) وقد قضيت في هذا الديوان 14 سنة استفدت خلالها فوائد تاريخية جليلة وكانت من أسعد أيام حياتي في الوظائف الحكومية فتعاقب على رئاسة الوزراء في بحر هذه السنوات السادة: نوري سعيد، مزاحم الباجه جي، علي جودت الأيوبي، توفيق السويدي، مصطفى العمري، نور الدين محمود، جميل المدفعي، فاضل الجمالي، أرشد العمري، عبد الوهاب مرجان، أحمد مختار بابان، عبد الكريم قاسم، وأحمد حسن البكر. فلم يتدخل أحد منهم في عملي ولم يمسسني سوء من واحد منهم حتى أحلت نفسي على التقاعد في أواخر عام 1964).
وقد أعجبته هذه الوظيفة، التي قضى فيها 14 سنة، لأنه أفاد منها كثيرا في الحصول على المصادر الأولية لمواد كتابه (تاريخ الوزارات العراقية). وفي أثناء عمله فيها حصل على وسام الرافدين من الدرجة الثالثة ومن النوع المدني لمناسبة تتويج الملك فيصل الثاني سنة 1952. وفي سنة 1964 نقلت خدماته إلى وزارة التربية، ولمّا لم يكن شغوفا بالتعليم فقد جمّد عمله وأحال نفسه على التقاعد لشعوره بعدم تقدير لمكانته وخدماته. ربما أراد عبد السلام عارف رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه طاهر يحيى إبعاده عن الوثائق والمراسلات السرية في تلك الفترة.
الانصراف للتأليف والكتابة
بعد تقاعده من الوظيفة انصرف الحسني إلى التوجه نحو التأليف والكتاب في شتى الميادين السياسية والتاريخية والعقائد وأدب الرحلات وغيرها. فزار سوريا ولبنان وتركيا وايران.
في 10 أيلول 1978 تعرض الحسني لحادث دهس في وسط بغداد . وقد كان لهذا الحادث تأثيراً على جسده وكان يبلغ من العمر آنذاك (75) عاماً ، وبقي يعاني من المرض وعدم القدرة على المشي. وأصبح رهينة جدران بيته ، يستقبل زواره من طلاب علم وباحثين وكتّاب ورجال فكر وصحافة وإعلام ، يحاورونه ويسألونه عن الأحداث التي عاصرها من تاريخ العراق الحديث ، فكان يجيبهم ، يوضح لها مما تسعفه به ذاكرته.
كان التاريخ هو الحقل المعرفي الذي عشقه الحسني مبكرا وأبدع فيه أيما إبداع مفضلا الخوض في عصوره الحديثة، ومنشغلا بتاريخ العراق الراهن عمّا سواه، ولعل عودة إلى أهم الكتب التي ألّفها مؤرخنا الكبير تؤكد إخلاصه وعشقه هذا، فقد فضّل الحسني التاريخ الحديث والمعاصر على غيره، ووجد ضالته فيه من خلال الاهتمام بالتاريخ العراقي الحديث الذي أشبعه تنظيرا وتحليلا، فشكّل حيّزا واضحا في عموم نشاطه البحثي ومنجزِه الفكري.
كان الحسني المؤرخ يملك حسّاً فكرياً تفاضلياً ، ولعلّ ما شجّعه على ذلك هو كون حركيّة التناول المنهجي للتاريخ الحديث عند أغلب المؤرخين العرب – بمن فيهم الحسني نفسه – هي حركيّة تابعة لديناميّة العصر الحديث ذاته، من حيث كونها ديناميّة ناتجة عن تفاعل المؤرّخ مع واقع الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة الذي شهد فورانا طاغيا في الوعي وفي الإحساس بالهوية وبالقيمة الحضارية للأمة عند عموم المثقفين العرب على اختلاف مشاربهم ولا سيّما خلال فترة الصدام مع المحتل الأجنبي.
كان – إذن- تفضيل الحسني لتاريخ العراق الحديث ما هو إلّا محاولة لإدراك أهمية هذا الحيّز الزماني الذي عاشه الإنسان العراقي المعاصر، ولإمكانية التعلّم والفهم الحقيقي للواقع العراقي الملتبس ولأحداثه الحساسة من خلال اختيار المادة المنتقاة للدرس وللفحص والتعليل التاريخي، خصوصا إذا كانت مادة كثيفة كثافة رمال البحر، ومتشابكة تشابك أغصان الشجر، وهو ما ينطبق على الظاهرة التاريخيّة العراقيّة المعاصرة التي حاول الحسني المؤرخ النزيه – رغم المآخذ التي سجلها عيه البعض في كونه مؤرّخ سلطة – أن يسجل بكل إنصاف حراك جماعاتها الوطنيّة المختلفة من أجل الوصول إلى حاضر حي، وإلى مستقبل مشرق تتآزر تحت أفيائه كل هذه الجماعات وتلتحم فيما بينها؛ وهي تصوغ مصيرها ووجودها وقوتها في ظل مراكز قوى دولية (استعمارية) متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية لا تدع مجالا بينها لكل ضعيف ممزّق، ولذا كانت كتب الحسني تدور في هذه الحلقة التي لم تكن يوما بالنسبة إليه وإلى قارئه الفطن بالمفرغة أو الخاوية، بل هي حلقة تنتقي الحدث الحي، والممارسة السياسية والثقافية الدالة، والحركة الموّارة المنبثقة من صميم الروح الوطني الذي علّم الحسني الشيء الكثير كما يصرح في مقدمة كتابه عن (الثورة العراقية الكبرى) التي أسيء فهمها وتأويلها، وكان لزاما على المؤرخ الحقيقي أن يضطلع بتزويد المتعطشين بالقراءة الواعية المتأنية، وهذا ما أخذه الحسني على عاتقه في مجموعة من الكتب الفريدة والاستثنائية التي تأمل فيها تاريخنا الوطني المعاصر عبر نظرة موضوعية حيادية منصفة، كما هو واضح في مؤلفه المهم (تاريخ الوزارات العراقية بعشرة أجزاء) وكتابه المعروف بـ(تاريخ العراق السياسي بثلاثة أجزاء) وكتابه المعنون (العراق بين دوري الاحتلال والانتداب) وكتابه المهم (الثورة العراقية الكبرى) وكتابه (العراق في ظل المعاهدات) وكتابه (الجبهة الوطنية في العراق.. جذورها التاريخية وتطورها) وكتابه الموسوم (تاريخ الأحزاب السياسية في العراق).
أهم مؤلفات الحسني
كتب الحسني في مختلف ميادين الأدب والتاريخ والعقائد والمعرفة الإنسانية ، من تلك الآثار:
أولاً : تاريخ الوزارات العراقية
أشهر مؤلفاته وأكثرها رصانة ودقة ووثائقية ، وأكبر مرجع عراقي يؤرخ لتاريخ الحكومات العراقية في العهد الملكي 1920-1958 للدولة العراقية الحديثة. إنها موسوعة سياسية حكومية برلمانية عراقية لا يستغني عنها كل باحث في التاريخ السياسي المعاصر للعراق.
قصة الكتاب
تبدأ قصة الكتاب عام 1926 حينما قام عبد المحسن السعدون بترشيح حكمت سليمان لرئاسة مجلس النواب الذي لم يفز أمام مرشح المعارضة رشيد عالي الكيلاني الذي فاز واستقالت وزارة السعدون من الحكم. ولما كُلّف السعدون بتشكيل الوزارة مرة أخرى أبى إلا أن يحل مجلس النواب الذي خذله ، لكن الملك رفض حل البرلمان.
تلك الفكرة ألهبت خيال الحسيني ، وكان يميل إلى الكيلاني الذي أصبح وزيراً للداخلية ، فجاءه إلى الوزارة ، وأسرّه بتأليف هذا الكتاب ، فعانقه الكيلاني. في عام 1927 تساءل الحسني أمام نفسه: أي اسم؟ أي عنوان يوائم كتابي: تاريخ الدولة العراقية ؟ لا .. أعمال الوزارات العراقية ؟ لا .. فلم يعثر على عنوان فتركه للمستقبل ، ولربما سيجده في أحد ملفات البحث.
ذهب الحسني إلى المحاكم يسأل القضاة ، وذهب إلى البرلمان باحثاً بضوابطه ، وهو بين هذه وتلك يقوم بجمع أعمدة الصحف ، ويصنفها في أرشيفه الخاص. هذه خزانة البلاغات ، وهذه خزانة المستندات .. وصار لديه (ألف ورقة) يقلب فيها يمنة ويسرة عن أمله ، بل صار القريبون منه يعرفون غاية الحسني في جمع بذور الدولة العراقية ، فأمدوه بما لديهم من هذه البذور .. ثم هذا وزير صديق له يمنحه سراً في وزارة ، وذلك طبيب ملكي يلقي إليه بوصف اجتماع ملوكيين ، ولما انتشر خبر الحسني في أوساط حفاظ الأسرار ، أهدى إليه صديقه صبيح ممتاز الدفتري مجموعة مثالية من (مقررات مجلس الوزراء) العراقي. وقد طبعت بكراسات دورية (لكل ثلاثة أشهر مستقلة). فلما قرأها الحسني اكتشف عنوانه: (تكوين الوزارات العراقية) الذي هو عنوان كتابه ، ومارس التجربة فيه ، بعث إلى مجلة (العرفان) في بيروت عام 1930 أول فصل من هذا العنوان ، فنشرته المجلة حافلاً بسجل الوزارة العراقية: المعاهدات ، الاتفاقيات ، المقررات ، ورأى القراء لوناً جديداً فيه ، فشجعوا الحسني ، وأرسلوا إليه رسائلهم.
وبينما هو يوثق رسائله ، اندفع إلى ميدانه الكبير ، يتصل بالسياسيين والقادة ومكتب الصحافة ، يجمع ويشذب .. ويقارن بين آراء هؤلاء وبين ما نشره في (العرفان) ويعثر ، هذه المرة ، على عنوانه الثابت: (تاريخ الوزارات العراقية) بعد ثلاث سنوات من نشره الفصل الأول ، ويصدر به الجزء الأول في عام 1934. وفي عام 1935 أصدر الجزء الثاني من هذا الكتاب ، وإذا المعارضون لفكرته جاءوه بالأصول الثمينة التي يحتفظون بها من أسرار الدولة ، ويضعون في يديه (معوناتهم) المعنوية. فكان ممن قدم له معلومات ووثائق : ياسين الهاشمي ، جعفر العسكري ، رشيد عالي الكيلاني ، ناجي السويدي ، توفيق السويدي ، محمد رضا الشبيبي ، وأخرين ممن وجدوا في كتاب (تاريخ الوزارات العراقية) مرآة عصرهم. وتتابعت أجزاء الكتاب حتى بلغت الأربعة في عام 1940.
حرص عبد الرزاق الحسني على تضمن كتابه صور رؤساء وزراء كل حكومة مع وزرائهم ، إضافة إلى بعض الشخصيات العسكرية كالسير برسي كوكس والمدنية كالمس بيل والملك فيصل الأول ، وبعض الأحدث مثل صورة مؤتمر القاهرة في آذار 1921 برئاسة ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطانية. كما نشر صورة تتويج الملك فيصل الأول في 23 آب 1921.
توقف إجباري لتأليف الكتاب
تابع الحسني جهده الوثائقي حتى أصدر أربعة أجزاء حتى