ترانيم الصدر وتباريحه
علي عبدالرحمن الحيدري
وأنا على جُناح السفر إلى دولة الإمارات العربيّة المتحدة وصلني كتابٌ جديد للعلّامة جامع الفنون المختلفة الموسوعي الكبير الأستاذ حسين السيد محمد هادي الصدر (نفع الله به العلم وأهله)، والكتاب عبارة عن جزءٍ جديد من أجزاء معلمته الفخمة التي تتألق بين رفوف المكتبةِ الإسلاميّة والعربيّة والتي سماها “موسوعة العراق الجديد”، وهو الجزء الخامس عشر بعد المائة وأظن المؤلف الكريم المعطاء أتعب نفسه في اختيار اسم له ينطبق على جميع المقالات التي جمعها ضمنه وهو: (ترانيم).
وما أحلى (ترانيم) الصدر و(تباريحه) و(شؤونه وشجونه) التي يبثها في بعضِ مقالاتهِ (تلويحاً وتلميحاً) لا (توضيحاً وتصريحاً) والحليم تكفيهِ الإشارة.. وما أجهل قوم يكون بينهم مثل هذا الكنز المدخر الذي قضى الله سبحانه بحكمته وقدرته أن يؤخره ويخص به (زماننا) فلا يلقىٰ بيننا ما يستحقهُ، وقد أتعب نفسه -وهو في العقد التاسع من عمره المبارك- بتأليف هذا الكم الهائل من المؤلفات المتنوعة! ولكن وكما قيل: (العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم) و(ثلاثةٌ يشكون إلى الله... وعالم بين جهال).
وبعد هذه الشقشقة وعوداً على بدءٍ، يقع هذا الجزء في ١٦٢ صفحة من القطع الوزيري، وَقَدْ زُينَ جيدُ هذا الجزء بهذيّن البيتيّن:
إِنْ قَرَعتْ سمعكَ ترنيمتي
صانتك مِنْ زيفٍ وَمِنْ خُرافة
إِنَّ حروف الصدقِ محمودة
تزيح كل شبهة وآفة
ضم هذا الجزء أكثر من ثلاثين موضوعاً من المواضيع المتنوعة الدينيّة والأدبيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة التي تضم أبهى العبر والصور التي لا يجود علينا ويتحفنا بها غير الأستاذ الصدر، وقد نشر معظمها في صحيفةِ الزمان الغراء والعريقة، والتي زادتها هذه المقالات والكتابات الدائمة والمتواصلة انتشاراً وتميزاً وبريقا.
يقول المؤلف الكريم في مقدمةِ الكتاب: (ترانيم هي إضمامة من لحون وأناشيد هزجت بها قيثارة هذا الشاعر أو ذاك، وحروف مغموسة ببحر العواطف المتدفقة وموارة بعبق الأدب خطها هذا اليراع أو ذاك، وربما خطر في ذهن بعض القراء الأعزاء أني اطلقت وصف (الترانيم) على ما كتبتهُ من مقالات ضمها هذا الكتاب، ولكنها ضمّت ما كَتَبهُ العديد من رجال الفكر والأدب والثقافة، ولم يكن الهدف من ذلك النزهة في رياض الفكر والأدب فحسب وإنما الوقوف المتأمل عند مساراتنا ومداراتنا في قراءة دقيقة نكتشف بها مقدار قربنا أو بعدنا عن الموقف الصائب المرضي عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله).
ومن المقالات الطريفة والمتميزة جداً في هذا الجزء والتي استوقفتني كثيراً متأملاً صياغتها ومعانيها مقالة بعنوان: (شيءٌ عن عصا الشيخوخة والهمم العالية) وحديثُ المؤلف الكريم عن الشيخوخة والهمم العالية حديثٌ يطيب لي أن أُسميه بـ(التباريح) أو (تباريح التباريح) كما يطيب لشيخنا أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري أن يسميه، وهو من حديث النفس عن النفس، أو قل من بَوْح (الصدر) عن (الصدر)، فالمؤلف العالم قَدْ بلغ الشيخوخة وهو في أواسط العقد التاسع من عمره الميمون ولكن تفتر همته ويقل نشاطه العلمي وحضوره الذهني ولا أدل على ذلك من هذا الكم الممتاز من المؤلفات الرائقة والشيقة، يقول المؤلف في هذه المقالة:
(يضطر بعض الشيوخ، ولضعفٍ يعتريهم بسبب الشيخوخة أن يستعينوا بالعصا في سيرهم، ومع ذلك فإن بعضهم يقول:
كنتُ أمشي على اثنتين قوّياً
صرتُ أمشي على ثلاث ضعيفا
ومعنى ذلك ان العصا لم تُغنه كما يريد).
ويستشهد بأبياتٍ جميلة عن أنفة بعض الشيوخ من حمل العصا فإليك ما قاله:
(ولقد رفض المرحوم الشاعر العلامة الشيخ عبدالمهدي مطر حمل العصا حين بلغ الثالثة والسبعين وقال:
نَحِّ عني عصا الشيوخ فإنّي
لستُ شيخاً ما دمتُ أَحملُ عَزْما
إِنَّ مَنْ يَحمِلُ العصا لضعيفٌ
كانَ كهلاً أو كان شيخاً وَهِمّا
وسأبقى ما دمتُ حَيّاً بسيري
مستقيمَ القوامِ شكلاً وَجِسما
أمقتُ الانحناء في المشي حتى
لو مَشَى بي قَرنٌ مِنَ العُمرِ تَمّا) وساق نماذج أخرى استشهد بها على حال الشيوخ مع العصا.. ولن يُحرم القارئ الفائد المرجوة التي ترافقها المتعة والطرفة من وقوفه على هذه الترانيم التي نحثه على أن يتأمل ما بين سطورها.
وفي ختام هذا العرض الموجز والسريع لهذا الجزء الحافل أزجي آيات الشكر والامتنان للأستاذ الكبير الصدر بارك الله به وله وعليه على ما يبذله من جهد كبيرٍ يعرفه المعني بالتأليف وشؤونه، وأسأل الله أن يوفقه لاصدار بقية الأجزاء من هذه الموسوعة المعرفيّة الضخمة الفخمة، وما ذلك على همته بعزيز.