البخلاء يقفون وحيدين في قصورهم
نهلة الدراجي
في زمنٍ أصبحت فيه الأرقام تسبق المشاعر،
وتحولت فيه القلوب إلى خزائن حديدية،
يقف البخيل وحيداً في قصره المُشيّد من أوراق نقدية باردة. نعم، إنه غني بماله، فقير بروحه، يحمل في جيوبه ثروات، وفي قلبه فراغاً يتسع ليبتلع كل معاني الحياة.
ما أقسى أن يتحول الإنسان إلى آلة حاسبة متنقلة، يزن كل علاقاته بميزان المادة، ويقيس نجاح يومه بما وفّر من قروش! وما أتعس أن تضيع منه لحظات العمر الثمينة في حسابات وهمية، بينما تنساب من بين أصابعه أجمل فرص السعادة والفرح!
في قلب كل بخيل تسكن مخاوف عميقة من المستقبل، وهواجس لا تنتهي من شبح الفقر. لكنه لا يدرك أنه بسلوكه هذا يصنع فقراً من نوع آخر - فقر المشاعر، وجفاف القلب، وخواء الروح. إنه يكتنز المال ظناً منه أنه يؤمّن مستقبله، بينما هو في الحقيقة يخسر حاضره وماضيه ومستقبله.
نسمع كثيراً عن بخل المال، لكن هناك أنواع من البخل أشد قسوة وأعمق جرحاً. إنه البخل المعنوي، ذلك السلوك الذي يجعل الإنسان يقتر على نفسه وغيره بأجمل ما في الحياة من قيم.
البخيل بابتسامته يسرق البهجة من الحياة، و بأخلاقه يحرم نفسه قبل غيره من جمال التعامل الراقي. أما بخيل الصدق والأمانة فهو يخسر أثمن ما في الوجود - ثقة الناس واحترامهم.
لكن أسوأهم جميعاً من يبخل بالدعاء والتمنيات الطيبة للآخرين، فهذا إنسان أغلق قلبه وحرم نفسه من أعظم نعمة - نعمة العطاء المعنوي الذي لا يكلف شيئاً سوى قلب كبير.
البخل ليس مجرد صفة سيئة يمكن التغاضي عنها، بل هو وباء اجتماعي يُفكك الروابط الأسرية، ويقتل روح التكافل في المجتمع. إنه سلوك مدمر يحول صاحبه إلى جزيرة معزولة، محاطة ببحر من الوحدة والعزلة.
السعادة الحقيقية لا تكمن في عدد الأصفار في حسابك البنكي، بل في عمق العلاقات التي تنسجها مع من حولك. إنها في ابتسامة طفل أسعدته بهدية، في دمعة فرح مسحتها عن وجه محتاج، في دعاء صادق من قلب إنسان ساعدته في محنته.
فهل آن الأوان لنفتح خزائن قلوبنا قبل خزائن أموالنا؟ هل حان الوقت لندرك أن أثمن ما نملك ليس ما نحتفظ به، بل ما نشارك به الآخرين من حب وعطاء وإنسانية؟
إن الحياة أقصر من أن نقضيها في عد النقود، وأثمن من أن نبيعها بحفنة من المال. فلنختر أن نكون أغنياء بمشاعرنا، أسخياء بعطائنا، أثرياء بعلاقاتنا الإنسانية... فتلك هي الثروة الحقيقية التي لا تنضب، والكنز الذي لا يفنى.
فلنجعل المال خادماً لسعادتنا، لا سيداً يستعبد أرواحنا..!
تأمل معي... كم من بخيل ثري مات وحيداً، وكم من كريم عاش سعيداً، وكم من بخيل خسر الدنيا والآخرة بسبب حفنة من المال لم تنفعه يوم رحيله.
تذكر دائماً: الكرم ليس بالمال وحده، بل بالروح والقلب والمشاعر الصادقة.