الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أين‭ ‬ذهب‭ ‬المبدعون؟

بواسطة azzaman

أين‭ ‬ذهب‭ ‬المبدعون؟

حسن‭ ‬النواب

 

معظم‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬ظهروا‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الطاغية‭ ‬يشبهون‭ ‬العشب‭ ‬الضار‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬ورد،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬صار‭ ‬لهم‭ ‬يكتبون‭ ‬بمنتهى‭ ‬الحرية،‭ ‬دلوني‭ ‬على‭ ‬واحد؛‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬حقَّق‭ ‬منجزا‭ ‬إبداعياً‭ ‬يستحق‭ ‬الانتباه؛‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬أنْ‭ ‬يستمر‭ ‬بإيهام‭ ‬الوسط‭ ‬الثقافي‭ ‬بحبزبوزياته‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬العمر،‭ ‬لقد‭ ‬نفخوهم‭ ‬وخدعوهم‭ ‬كثيراً‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬شحَّ‭ ‬المبدعون‭ ‬في‭ ‬بلادي‭. ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الطاغية‭ ‬صدام‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬شعراء‭ ‬البعث‭ ‬كما‭ ‬نعرفهم‭ ‬‮ ‬‮«‬‭ ‬بلقاء‭ ‬شخصي‭ ‬على‭ ‬التلفزيون‭ ‬لمدة‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭ ‬طيلة‭ ‬حياتهم‭ ‬الثقافية؛‭ ‬بينما‭ ‬تعرض‭ ‬الفضائيات‭ ‬العراقية‭ ‬وما‭ ‬أكثرها‭ ‬لقاءات‭ ‬مع‭ ‬متثاقفين‭ ‬وأرباع‭ ‬وأنصاف‭ ‬أدباء‭ ‬لم‭ ‬يهضموا‭ ‬حبر‭ ‬اقلامهم‭ ‬بعد،‭ ‬يظهرون‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الوقت؛‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يحتفظ‭ ‬بساعات‭ ‬تلفزيونية‭ ‬معه‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬بينما‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬ابتكر‭ ‬التجديد‭ ‬للقصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬حسب‭ ‬الشيخ‭ ‬جعفر‭ ‬والذي‭ ‬رحل‭ ‬قبل‭ ‬عام،‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التلفاز‭ ‬سوى‭ ‬لمرة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬مرتين‭ ‬طيلة‭ ‬عمره‭ ‬الأدبي‭ ‬الحافل‭ ‬بالإبداعات؛‭ ‬لكن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الصيصان‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬ظهروا‭ ‬مليون‭ ‬مرة‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التلفاز‭ ‬لا‭ ‬رجاء‭ ‬فيهم‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬نصوصهم؛‭ ‬وأقل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عنها‭ ‬انهم‭ ‬جاءوا‭ ‬بظروف‭ ‬طارئة‭ ‬وزائفة،‭ ‬وأرتاب‭ ‬من‭ ‬صمودهم‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬كأدباء‭. ‬إنهم‭ ‬زبد‭ ‬بحر‭ ‬ينتهي‭ ‬مع‭ ‬تلاشي‭ ‬الفضائيات‭ ‬التي‭ ‬تبنتهم‭. ‬الطاغية‭ ‬صدّام‭ ‬برغم‭ ‬عنجهيته‭ ‬وبطشه‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬معتقلاته‭ ‬وحروبه‭ ‬ورعبه‭ ‬الجيل‭ ‬الثمانيني‭ ‬الذي‭ ‬بسط‭ ‬إبداعه‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬بل‭ ‬حقق‭ ‬احتراماً‭ ‬واضحاً‭ ‬عبر‭ ‬نصوصه‭ ‬الناضجة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬الثقافة‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭  ‬أدباء‭ ‬أنقياء‭ ‬مبدعين‭ ‬راسخين‭ ‬يديرونها‭ ‬دائما‭ ‬حتى‭ ‬تنتج‭ ‬مَنْ‭ ‬هم‭ ‬أنقى‭ ‬وأبدع‭ ‬وأرسخ‭ ‬منهم،‭ ‬أمَّا‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية‭ ‬الآن‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬‭ ‬فليم‭ ‬كارتون‭ ‬يثير‭ ‬الشفقة‭ ‬ووعود‭ ‬لبيوت‭ ‬في‭ ‬الجنة‭ ‬وانتظار‭ ‬المنقذ‭ ‬للبشرية؛‭ ‬هذا‭ ‬المنقذ‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬خرج‭ ‬فأول‭ ‬الذين‭ ‬يأخذ‭ ‬برؤوسهم‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يشرفون‭ ‬على‭ ‬أحوال‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬وجماعتهم،‭ ‬فقد‭ ‬اختنقت‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬بريائهم‭ ‬وبهتانهم‭. ‬إنَّ‭ ‬الفجيعة‭ ‬قادمة‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬توهموا‭ ‬أنهم‭ ‬أصبحوا‭ ‬في‭ ‬مراتب‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الثقافة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنَّ‭ ‬المبدع‭ ‬يشبه‭ ‬السجين؛‭ ‬كلما‭ ‬طال‭ ‬سجنه‭ ‬ازداد‭ ‬فهمه‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬والحياة،‭ ‬انتبهوا‭ ‬أيها‭ ‬الطارئون‭ ‬فإغراء‭ ‬الدنيا‭ ‬قصير‭. ‬فمازال‭ ‬هناك‭ ‬أدباء‭ ‬ليسوا‭ ‬مثل‭ ‬الآخرين‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬دعاية‭ ‬مفبركة‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭ ‬زائلة؛‭ ‬فهم‭ ‬بصراحة‭ ‬يعرفون‭ ‬‮«‬‭ ‬الفيلم‭ ‬‮«‬‭ ‬جيداً،‭ ‬ولا‭ ‬يأبهون‭ ‬عمَّا‭ ‬يجري‭ ‬الآن؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنَّ‭ ‬نظرتهم‭ ‬أطول‭ ‬وأبعد‭ ‬وأعمق‭ ‬بكثير،‭ ‬سيشهدون‭ ‬جنائز‭ ‬ثقافية‭ ‬وأدبية‭ ‬كثيرة‭ ‬تدفن‭ ‬أمام‭ ‬أنظارهم؛‭ ‬لن‭ ‬يشمتوا‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬يندبونها‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬الندب،‭ ‬لكنهم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدقيقة‭ ‬يشفقون‭ ‬عليها،‭ ‬ربما‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬ومن‭ ‬يضمن‭ ‬أنهم‭ ‬سيبقون؛‭ ‬وهو‭ ‬وأجيبهُ‭: ‬إنَّ‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة؛‭ ‬إنَّما‭ ‬الذي‭ ‬يزرع‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬بضميره،‭ ‬والبرهان‭ ‬قبل‭ ‬شهور‭ ‬مضت‭ ‬اضطرت‭ ‬قناة‭ ‬معروفة‭ ‬بانزعاجها‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬التقدمية‭ ‬أنْ‭ ‬تعرض‭ ‬فيلما‭ ‬عن‭ ‬المناضل‭ ‬الفذ‭ ‬سلام‭ ‬عادل،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المناضل‭ ‬الشجاع‭ ‬يتوقع‭ ‬يوماً‭ ‬أنَّ‭ ‬فيلما‭ ‬سيعرض‭ ‬عنه؛‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬ضمير‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء‭ ‬غير‭ ‬ضمير‭ ‬الحكومات‭ ‬الذي‭ ‬يتبدل‭ ‬بسرعة‭. ‬إنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬بأناسها‭ ‬الأنقياء‭ ‬تحفظ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ومثلها‭ ‬السماء‭ ‬ايضا،‭ ‬فمن‭ ‬كان‭ ‬خائناً‭ ‬أو‭ ‬جباناً‭ ‬أو‭ ‬انتهازيا‭ ‬أو‭ ‬شرطياً‭ ‬تافهاً‭ ‬أو‭ ‬أديبا‭ ‬زائفاً،‭ ‬ستكشف‭ ‬عنهُ‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬أجل‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لبث‭ ‬المبدعون‭ ‬في‭ ‬عزلتهم؛‭ ‬لكنهم‭ ‬وحدهم‭ ‬من‭ ‬يحملونَ‭ ‬قنديل‭ ‬ديوجين‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬النهار‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬فاضل‭ ‬يعيد‭ ‬عنفوان‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬إلى‭ ‬السطوع‭. ‬اقترح‭ ‬على‭ ‬الحكومة‭ ‬فرصة‭ ‬أخيرة‭ ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬بهائه‭ ‬الثقافي‭ ‬والإبداعي؛‭ ‬أن‭ ‬تنتبه‭ ‬لأسماء‭ ‬إبداعية‭ ‬في‭ ‬المهجر‭ ‬بوسعها‭ ‬أنْ‭ ‬تعيد‭ ‬هيبة‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬بزمن‭ ‬قياسي‭ ‬شرط‭ ‬منحهم‭ ‬كامل‭ ‬الصلاحيات‭ ‬بإدارة‭ ‬شؤون‭ ‬الثقافة؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬مثقفي‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء‭ ‬لم‭ ‬يطالعوا‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬حتى‭ ‬كتاب‭ ‬العبرات‭ ‬للمنفلوطي‭ ‬ولم‭ ‬يحضروا‭ ‬عرضاً‭ ‬مسرحياً‭ ‬أو‭ ‬عرضاً‭ ‬تشكيلياً‭ ‬وهي‭ ‬تفتقر‭ ‬بصراحةٍ‭ ‬إلى‭ ‬كوكبة‭ ‬المبدعين‭. ‬وعندما‭ ‬تنهض‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يزدهر‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬أصعب‭ ‬محنة‭ ‬المثقف‭ ‬العراقي‭ ‬بالوطن‭ ‬الآن؛‭ ‬فهناك‭ ‬مسؤول‭ ‬ثقافي‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقالاته‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬بفرح‭ ‬والتي‭ ‬يشير‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬تأييد‭ ‬المواطنين‭ ‬لحرفية‭ ‬شبكة‭ ‬الإعلام‭ ‬العراقي‭ ‬وحيادها،‭ ‬ذكرني‭ ‬مقاله‭ ‬الفنتازي‭ ‬بنظام‭ ‬الطاغية‭ ‬صدام‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬تأييداً‭ ‬على‭ ‬قرار‭ ‬اتخذه،‭ ‬حيث‭ ‬تبقى‭ ‬القناة‭ ‬الأولى‭ ‬تبث‭ ‬لقاءات‭ ‬مع‭ ‬المواطنين‭ ‬على‭ ‬إنهم‭ ‬مع‭ ‬قرار‭ ‬الطاغية‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬يلعنونه‭ ‬بالسر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭. ‬أدعو‭ ‬مخلصاً‭ ‬من‭ ‬يعنيهم‭ ‬حال‭ ‬الثقافة‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬لقراء‭ ‬كتاب‭ ‬أين‭ ‬ذهب‭ ‬كل‭ ‬المثقفين‭ ‬لعالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬البريطاني‭ ‬فرانك‭ ‬فوريدي‭ ‬حيث‭ ‬يطرح‭ ‬مشكلة‭ ‬غياب‭ ‬المثقف‭ ‬المنتج‭ ‬للثقافة‭ ‬لصالح‭ ‬وجوه‭ ‬زائفة‭ ‬تتصدر‭ ‬المشهد‭ ‬وتقود‭ ‬النقاش‭ ‬العام؛‭ ‬وهي‭ ‬خالية‭ ‬الوفاض‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مضمون‭ ‬معرفي‭ ‬أو‭ ‬أخلاقي‭ ‬أو‭ ‬إبداعي‭. ‬إذْ‭ ‬يرى‭ ‬فوريدي‭ ‬أنَّ‭ ‬المثقف‭ ‬أصبح‭ ‬كائناً‭ ‬مهدَّداً‭ ‬بالانقراض،‭ ‬بسبب‭ ‬طوفان‭ ‬مدعي‭ ‬الثقافة‭ ‬الذين‭ ‬تصدَّروا‭ ‬المشهد‭ ‬دون‭ ‬محتوى‭ ‬أخلاقي‭ ‬وإبداعي؛‭ ‬وأنَّ‭ ‬الثقافة‭ ‬تتعرَّض‭ ‬للترهل‭ ‬بسبب‭ ‬اندفاع‭ ‬الأشخاص‭ ‬العاديين‭ ‬لميادينها‭ ‬الفكرية‭ ‬والأكاديمية،‭ ‬ويرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الساحة‭ ‬خسرت‭ ‬مثقفين‭ ‬بارزين‭ ‬يمتلكون‭ ‬الرؤية‭ ‬والموهبة،‭ ‬وجعلت‭ ‬المزيفين‭ ‬يتصدرون‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭.‬

‭* ‬نواصل‭ ‬حلقات‭ ‬الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬القادم‭.‬


مشاهدات 189
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/12/16 - 3:39 PM
آخر تحديث 2024/12/19 - 11:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 313 الشهر 8124 الكلي 10064219
الوقت الآن
الخميس 2024/12/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير