معظم الأدباء الذين ظهروا بعد سقوط الطاغية يشبهون العشب الضار في حديقة ورد، أكثر من عشرين عاماً صار لهم يكتبون بمنتهى الحرية، دلوني على واحد؛ واحد فقط حقَّق منجزا إبداعياً يستحق الانتباه؛ أو يمكن أنْ يستمر بإيهام الوسط الثقافي بحبزبوزياته إلى نهاية العمر، لقد نفخوهم وخدعوهم كثيراً بعد أنْ شحَّ المبدعون في بلادي. في زمن الطاغية صدام لم يظهر شعراء البعث كما نعرفهم « بلقاء شخصي على التلفزيون لمدة خمس دقائق طيلة حياتهم الثقافية؛ بينما تعرض الفضائيات العراقية وما أكثرها لقاءات مع متثاقفين وأرباع وأنصاف أدباء لم يهضموا حبر اقلامهم بعد، يظهرون على مدى ساعة من الوقت؛ بل هناك من يحتفظ بساعات تلفزيونية معه لا حصر لها، بينما الشاعر الذي ابتكر التجديد للقصيدة الحديثة حسب الشيخ جعفر والذي رحل قبل عام، لم يظهر على شاشة التلفاز سوى لمرة واحدة أو مرتين طيلة عمره الأدبي الحافل بالإبداعات؛ لكن هؤلاء الصيصان حتى لو ظهروا مليون مرة على شاشة التلفاز لا رجاء فيهم ولا في نصوصهم؛ وأقل ما يقال عنها انهم جاءوا بظروف طارئة وزائفة، وأرتاب من صمودهم إلى نهاية المطاف كأدباء. إنهم زبد بحر ينتهي مع تلاشي الفضائيات التي تبنتهم. الطاغية صدّام برغم عنجهيته وبطشه خرج من معتقلاته وحروبه ورعبه الجيل الثمانيني الذي بسط إبداعه على العراق بل حقق احتراماً واضحاً عبر نصوصه الناضجة على مستوى الوطن العربي، الثقافة بحاجة إلى أدباء أنقياء مبدعين راسخين يديرونها دائما حتى تنتج مَنْ هم أنقى وأبدع وأرسخ منهم، أمَّا الذي يحدث في الساحة الأدبية الآن فهو « فليم كارتون يثير الشفقة ووعود لبيوت في الجنة وانتظار المنقذ للبشرية؛ هذا المنقذ إذا ما خرج فأول الذين يأخذ برؤوسهم هم من يشرفون على أحوال الثقافة العراقية وجماعتهم، فقد اختنقت الحياة الثقافية بريائهم وبهتانهم. إنَّ الفجيعة قادمة على الذين توهموا أنهم أصبحوا في مراتب عالية من الثقافة، ذلك أنَّ المبدع يشبه السجين؛ كلما طال سجنه ازداد فهمه إلى الحرية والحياة، انتبهوا أيها الطارئون فإغراء الدنيا قصير. فمازال هناك أدباء ليسوا مثل الآخرين يبحثون عن دعاية مفبركة أو شهرة زائلة؛ فهم بصراحة يعرفون « الفيلم « جيداً، ولا يأبهون عمَّا يجري الآن؛ ذلك أنَّ نظرتهم أطول وأبعد وأعمق بكثير، سيشهدون جنائز ثقافية وأدبية كثيرة تدفن أمام أنظارهم؛ لن يشمتوا بها أو يندبونها لأنها لا تستحق الندب، لكنهم من هذه الدقيقة يشفقون عليها، ربما هناك من يقول ومن يضمن أنهم سيبقون؛ وهو وأجيبهُ: إنَّ الذي يبقى ليس من يبقى على قيد الحياة؛ إنَّما الذي يزرع هذه الأرض بضميره، والبرهان قبل شهور مضت اضطرت قناة معروفة بانزعاجها من الأفكار التقدمية أنْ تعرض فيلما عن المناضل الفذ سلام عادل، هل كان هذا المناضل الشجاع يتوقع يوماً أنَّ فيلما سيعرض عنه؛ غير أنَّ ضمير هذه الأرض والسماء غير ضمير الحكومات الذي يتبدل بسرعة. إنَّ هذه الأرض بأناسها الأنقياء تحفظ كل شيء ومثلها السماء ايضا، فمن كان خائناً أو جباناً أو انتهازيا أو شرطياً تافهاً أو أديبا زائفاً، ستكشف عنهُ هذه الأرض بعد حين، أجل حتى لو لبث المبدعون في عزلتهم؛ لكنهم وحدهم من يحملونَ قنديل ديوجين في عز النهار بحثاً عن رجل فاضل يعيد عنفوان الثقافة العراقية إلى السطوع. اقترح على الحكومة فرصة أخيرة حتى يعود العراق إلى بهائه الثقافي والإبداعي؛ أن تنتبه لأسماء إبداعية في المهجر بوسعها أنْ تعيد هيبة الثقافة العراقية بزمن قياسي شرط منحهم كامل الصلاحيات بإدارة شؤون الثقافة؛ لأنَّ مثقفي المنطقة الخضراء لم يطالعوا في حياتهم حتى كتاب العبرات للمنفلوطي ولم يحضروا عرضاً مسرحياً أو عرضاً تشكيلياً وهي تفتقر بصراحةٍ إلى كوكبة المبدعين. وعندما تنهض الثقافة في بلد يزدهر فيه كل شيء ما أصعب محنة المثقف العراقي بالوطن الآن؛ فهناك مسؤول ثقافي في الحكومة لا أدري يضحك على من في إحدى مقالاته الأخيرة التي كتبها بفرح والتي يشير فيها إلى تأييد المواطنين لحرفية شبكة الإعلام العراقي وحيادها، ذكرني مقاله الفنتازي بنظام الطاغية صدام عندما كان يريد تأييداً على قرار اتخذه، حيث تبقى القناة الأولى تبث لقاءات مع المواطنين على إنهم مع قرار الطاغية وهم في الواقع يلعنونه بالسر في كل لحظة. أدعو مخلصاً من يعنيهم حال الثقافة والإبداع في البلاد لقراء كتاب أين ذهب كل المثقفين لعالم الاجتماع البريطاني فرانك فوريدي حيث يطرح مشكلة غياب المثقف المنتج للثقافة لصالح وجوه زائفة تتصدر المشهد وتقود النقاش العام؛ وهي خالية الوفاض من أي مضمون معرفي أو أخلاقي أو إبداعي. إذْ يرى فوريدي أنَّ المثقف أصبح كائناً مهدَّداً بالانقراض، بسبب طوفان مدعي الثقافة الذين تصدَّروا المشهد دون محتوى أخلاقي وإبداعي؛ وأنَّ الثقافة تتعرَّض للترهل بسبب اندفاع الأشخاص العاديين لميادينها الفكرية والأكاديمية، ويرى أنَّ الساحة خسرت مثقفين بارزين يمتلكون الرؤية والموهبة، وجعلت المزيفين يتصدرون المشهد الثقافي.
* نواصل حلقات الشاعر والبلاد في الأسبوع القادم.