لا أشك أن العرب يشعرون بالغبطة لوجود النفط في بلادهم، ويحمدون الله على تدفقه في أراضيهم. ويتمنون لو أن مكامنه اتسعت، وأسعاره ارتفعت، ووجوده في باطن الأرض امتد لآلاف السنين! فقد تحولوا فجأة من شعب معدم إلى آخر غني، وأصبح في وسعهم الحصول على منازل أنيقة والتجوال في سيارات فارهة، واقتنوا السلع الثمينة، وبنوا الجامعات والمشافي والأسواق .. وغير ذلك من الأمور، لكنهم يدركون أنهم بسببه باتوا عرضة للحسد والغيرة، وأحياناً كثيرة للإثم والعدوان.
في ما بعد حاولوا رد الصاع لمستعمريهم القدامى، فمنعوه عنهم في الشتاء البارد، لدرجة أن أحد السياسيين الغربيين (أنبهم) بنوع من الألم قائلاً: أنتم لم تصنعوا النفط، الصدفة وحدها هي التي جعلته بين أيديكم، فلماذا تحاربوننا به!.
وليس سراً أن مثل هذه الحال ليست نافعة على الدوام، وقد تكون ضارة جداً أحياناً، فمثلما أن لديها جانباً مضيئاً، فإن لها آخر معتم أيضاً، وربما يصح القول أن مشكلة العرب الحقيقية في هذا العالم تكمن في ظهور هذا المارد الأسود على حين غرة لديهم، وتحوله إلى المصدر الأول للطاقة في العالم، فلم تعد التنمية همهم الأول لانشغالهم بإنفاق الأموال، وبناء الأبراج، واقتناص متع الحياة، لكن ما لم يكن في الحسبان أن تؤدي زيادة الموارد النفطية لديهم إلى تكريس التجزئة، والتخلي عن فكرة الوحدة.
وقد يعجب البعض لهذا الاستنتاج الذي يبدو في غير محله، لكن إنكاره هو البرهان على صحة هذه المقولة. فالحقيقة أن العرب منذ أن ارتفعت أسعار النفط في أواخر السبعينات، وازدادت مساهمتهم في أصول الشركات الأجنبية، لم يعودوا ميالين للتفكير في شيء اسمه الوحدة، بل باتوا ينكرونها، ويتخوفون منها إلى درجة أنهم صرفوا النظر عنها تماماً، فلا يوجد الآن بين العرب تيار وحدوي يرفع صوته مطالباً بالتضامن والتآزر والتقارب، مثلما كانت عليه الحال من قبل، حتى أن الأحزاب القومية التي كانت تصول وتجول وتتظاهر من أجل الوحدة، ضعفت وانهارت، ولم يعد لها وجود يذكر في الساحة.
ومن الغريب أن العرب كانوا يشعرون أنهم شعب واحد بالفعل، يوم كانوا فقراء، لا يملكون سوى الزرع والضرع، والستر والعافية، وكانوا يؤمنون أن الغنى الذي تمتع به أسلافهم قبل مئات السنين، سيعود حين يلتئم شملهم، وتتوحد كلمتهم.
ليس هذا فقط، بل إن القوة التي أخضعت البلدان والممالك، ونشرت العدل والمساواة، في الماضي، ستكون طوع أيديهم إذا ما اجتمعوا من جديد في دولة واحدة.
وقد أتى على هؤلاء العرب حين من الدهر، كانوا يقرنون فيه الإيمان بالعمل، والنظرية بالواقع، فلم ير العراقيون وقبلهم السوريون مانعاً أن يتولى أمرهم ملك من الحجاز، وسار على منوالهم الأردنيون. بل أن وزراء وقادة جيوش عراقيين مثل ياسين الهاشمي ونوري السعيد كانوا يتولون المسؤولية في سوريا، مثلما تولى أخوة لهم (مثل رستم حيدر) ذات الأمر في العراق، وهكذا. مثل هذا الأمر لم يعد متاحاً في عصر النفط والوفرة المالية، وليس ثمة من يقبل به اليوم من العرب في المشرق والمغرب، فقد انبعثت الروح الإقليمية فجأة، وأخذت تدفع بهم للتشبث برقعة الأرض التي وجدوا أنفسهم (بالصدفة) فيها، وربما كانت آخر تجربة لهم في هذا السبيل، يوم أسندت وزارة الدولة إلى عدنان الباجه جي في دولة الإمارات، في عقد السبعينات من القرن الماضي، قبل أن تمتلئ خزائنها بأموال النفط .
لقد قضى النفط على حلم الوحدة العربية إذن، وبات مجرد التفكير في هذا الهدف نوعاً من اللامعقول، أو الثرثرة، أو الهزل الصريح. ولله في نفطه شؤون !