لقد أتى على العراقيين حين من الدهر لم يكونوا قادرين فيه على توجيه كلمة نقد، أو جملة اعتراض على أفعال السلطة، وكانت أي إشارة تذمر، أو إيماءة سخرية، كفيلة بإرسال صاحبها إلى المحرقة، رغم أن كثيراً من هذه الملاحظات كانت نافعة، ولو أخذ بها لما نال البلاد أذى، ولما أصابها مكروه، أي أنها كانت سلوكاً إيجابياً أراد صاحبه عن قصد أو غير قصد، حماية الأجهزة المتنفذة من الوقوع في المحظور.
وأبرز الأمثلة على هذه الأخطاء التي أودت بحياة الآلاف من المعارضين، الحروب العبثية، والاستبداد الحزبي، وتغول حكومة القرية، وقد دفعت أسر كاملة الثمن باهظاً لكلمة مخلصة خرجت في لحظة أسى، بل إن وزراء وقادة جيوش وموظفين كباراً أعدموا أو تواروا عن الأنظار، لا لجريمة ارتكبوها، بل بسبب نصيحة مجانية قدموها، أو رأي مهني أبدوه، لإنقاذ البلاد مما وقعت فيه من دمار.
وقد اكتشف رجال السلطة بعد فوات الأوان – حتى لو لم يصرحوا بذلك – أن الذين ماتوا في مثل هذه الظروف، كانوا أكثر حرصاً على البلاد من الذين شجعوا رأس السلطة على الطيش والتهور والضلال. وانتهوا به في ما بعد إلى حبل المشنقة.
في هذا العصر ، الذي أسدل الستار فيه على مثل هذا السلوك، لم يعد النقد حراماً، بل إنه بات ظاهرة كثيرة الشيوع، وأضحى قادة البلاد هدفاً لكل ذي غرض، وأخذت وسائل الإعلام التي تضخمت، تضج بالساخطين والمتذمرين، لسبب أو لغير سبب.
إلا أن من المفيد القول أن كثرة النقد كقلته، والإفراط فيه كالامتناع عنه لأنه إذا ما تجاوز الحد، وتخطى الحواجز، تحول إلى أداة من أدوات عدم الاستقرار، وأعطى انطباعاً مغايراً للواقع.
ومن الطبيعي في بلد نام كالعراق، أن يعاني الجهاز الحكومي من الترهل، وأن تشوب خطط التنمية المعوقات، ويظهر فيه فاسدون ومثبطون.
لكن هناك بمقابل هذا بحوثاً تكتب، ونظريات تطرح، من اختصاصيين لتقويم مسار الدولة، وإبداء الرأي في ما يعلن من مشاريع، وكثير منها يعارض خطط الدولة، ومن الملائم أن تؤخذ هذه الأفكار على محمل الجد، وأن تدرس بعناية، وتخضع للمداولة والنقاش.
وقد اطلعت على العديد من ردود الأفعال تجاه بعض العقود المبرمة مع الشركات النفطية، أو العقود التي في طريقها للتنفيذ، لخبراء نفطيين، وكانت في مجملها نظرات سديدة وواقعية، وأظن أن بعضها ساهم في تغيير بنود هذه العقود، أو صرف النظر عن بعضها، أو تأجيلها في الأقل.
وقرأت مثل هذا لأمثالهم في قطاع النقل، الذي يعاني بدوره من الاختناق، وقد قدم بعضهم الكثير من الرؤى والأفكار التي تسهم بحل المشكلة، وقدموا مقترحات تنم عن الوعي أو التجربة، وغير ذلك.
مثل هذا النقد وسواه كثير، لا يجوز التفريط فيه بحال، لأنه يستند إلى معطيات وأرقام، ويعول على نقاشات وحوارات، وأخذ ورد، بطريقة علمية جادة، ويمكن أن يكون مقدمة لرأي عام رصين، هدفه دعم التنمية، وتطوير البلاد..
أما إذا كان متهافتاً فيمكن الاستغناء عنه وإهماله، وفي رأيي أن هذا النقد واجب (شرعي) على كل من يمتلك الخبرة والتجربة والعلم، وليس ترفاً يلوح به البعض نكاية بحزب أو جماعة، أما التجمهر والفوضى و (حرق الإطارات!) دون أي مسوغ معقول فلن يؤدي إلى نتيجة، بل سيؤزم الوضع، ويفاقم الأمور! .
إن النقد البناء حق لكل مواطن، يمتلك الأهلية له، أما إذا لم يحز على شيء منه، فالأولى له أن يستشير أهل الرأي، ويستمع لأهل الخبرة، ففي ذلك منجاة له ولأهله ومجتمعه من الهم والأذى والخراب.