نعمة مطر يرحل واقفاً في ميسان
سمير السعد
هاهو الفقد يدقُ قلوبنا برمز ميساني آخر ، رمز عانقت روحه السماء ، و تيممت بقصائده الأرض ، ما أعظمه من رمز !! ليكسر كل خواطرنا المعجونة بالألم
و في سكون الليل الميساني ، حيث تتداخل أصوات الرياح مع همسات الأنهار ، ستبقى كلمات الشاعر نعمة مطر تنبض بالحياة و تنير الدروب .
عاش العملاق أبن مدينة العمارة العراقيّة حاملاً في قلبه نبض الجنوب ، و أغاني الأرض و الناس .
كان معروفاً ليس فقط بشعره المرهف ، بل بأصالته الإنسانيّة العميقة التي جعلت من كلماته مرآة لوجع الوطن ولأحلام الناس .
ترك رحيلُهُ المفاجئ أثراً بالغاً في قلوب محبيه و أصدقائه ، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تعويض تلك المساحة الفارغة التي خلفها .
لم يكن نعمة مطر مجرد شاعراً يكتب الكلمات ، بل كان صوتاً للشجن العراقيّ ، يعبّرُ عن مشاعر ملايين الناس بصدق و أمانة .
كلماته تلامس المشاعر و تلهب الأحاسيس بدفقها العذب ، تتنفس من عمق الجراح و تصدح بالأمل .
من أشهر قصائده التي تناغي قلوب كل من سمعها :
(نصن بالبواجي اليل مسموع
انه ماي و تبده أشتنفع الدموع ،
شنهي الفايده و الراح شو راح ،
تغطن ما أريد الزيج مدروع ،
حكجن دوهنتجن رهبه الموت
هيمه أحنه و يظل الموت ينبوع .
يبويه الحزن مو سود الهدوم ،
تره فكد العزيز إيحز الضلوع
أتلاشه النايحه أبسكتت الفنجان ، و أطش الصاحبه و يكضي الأسبوع .
و أبوجن هذا أبوجن مكف الأيام ،
و كضه أسنينه الطويله براس مرفوع .
أبوجن لا رهل لا خف الجدم
يشد بطنه أعله ظهره أبلفحه الجوع .
أسكتن هذا أبوجن عدل ما مات ،
يظل عرجه أبثنايه الصخر مزروع ،
أسكتن ما أريد أنياح و صياح ،
و أظل الجن غناوي و شعر مطبوع) .
حقيقة كان نعمة مطر كالمطر في قصائده يوّثق بأشعاره تفاصيل الحياة اليومية بأفراحها وأحزانها ، حتى صار أيقونة أدبيّة تُعبّر عن روح الجنوب الصامدة . و ها هو ذا برحيله يترك فراغاً مؤلماً ، لكن ذكراه ستبقى حيّة في قلوب كل من أستمع إليه ، و كل من لمس جمال كلماته .
وسط شعري
توديع محبيه له كان مليئاً بالدموع و الألم . و رغم الفقد الذي هزَّ الوسط الشعري ، لكن الحفاظ على إرثه الأدبيّ سيبقى الهاجس الأوحد للوسط الشعري الميساني ، لأنه واحد من أعظم الأصوات الشعريّة التي عبّرت عن حب الوطن و أوجاعه .
رحل أبو “خواطر”، لكن كلماته ستظل تسكن فينا ، تقرع أبواب القلوب ، و تذكرنا بأن الفن لا يموت ، بل يبقى حيًا ما دامت هناك ذاكرة تروي القصص .
رحيل الشاعر نعمة مطر ليس مجرد غياب جسدي ، بل هو فراق عاطفي لأحد أعمدة الشعر الشعبيّ في العراق ، الذي أستطاع من خلال كلماته أن يجسد صورة الإنسان الميسانيّ و العراقيّ على حد سواء .
لقد نقل بأشعاره معاناة الناس وآمالهم ، محاولاً أن يجعل من الحزن مصدراً للإلهام و المقاومة .
عاش مخلصاً لعراقه الأوحد ، و قد تميز شعره بالعفوية و البساطة التي تخفي وراءها عمقاً إنساني لا يوصف .
كان أبا (خواطر) يتملك قدرة فريدة على إيصال مشاعر الحزن و الشوق و الغضب ، بطريقة تصل إلى قلب كلِّ من يستمع إليه .
قصائده لم تكن مجرد كلمات تُلقى على مسامع الناس ، بل كانت إنعكاساً حقيقياً للوجدان الشعبيّ ، محملة بتجارب الحياة القاسية التي عاشها أبناء العراق . و عندما كتب “نصن بالبواجي الليل مسموع” ، كان يتحدث عن وجع سمعه الجميع ، لكنه كان الأقدر على ترجمته إلى كلمات .
في أحد اللقاءات مع أصدقائه المقربين ، تحدثوا عن تلك اللحظات التي كانوا يقضونها معاً ، حيث كان يشاركهم شعره الجديد في الليالي العمارية المظلمة ، و يكتب عن الحلم و الواقع معاً ، عن الأمل و اليأس ، و يمزج بينهما بطريقة فنية تجعلك تشعر بأنك جزء من تلك القصص التي يرويها .
يقول أحد أصدقائه المقربين : هو الذي يعطينا الأمل في كل كلمة ، حتى في أصعب الظروف ، حيث يرى في الشعر مخرجاً من كل الآلام ، و يقول دائماً إن الكلمة الصادقة لا تموت أبداً .”
و بعد رحيله يبدو أن تلك الكلمات الصادقة ما زالت تعيش بيننا ، في كل زاوية من زوايا ميسان ، و في كل بيت من بيوت أهل الجنوب ..!!
سيقف نعمة مطر كسحابة بيضاء .. ليبقى الناس يرددونها في أفراحهم و أحزانهم ، لأنها أصبحت جزءاً من وجدانهم ، و وسيلة للتعبير عن مشاعرهم . ترددت أبيات شعره في الأمسيات ، وجلسات الأصدقاء و المحبين لتظل روح الشاعر حيّة بين الناس .الفقد ليس مجرد لحظة رحيل ، بل هو أستمرار لوجود معنوي طويل .
لقد ترك وراءه إرثاً شعرياً ، سيظل يعيش في ذاكرة الأدب الشعبيّ العراقيّ ، و سيظل يُدرّس للأجيال القادمة كتعبير عن تلك المرحلة الصعبة التي مرَّ بها الوطن .
كاهن الشعر
خلاصة القول .. سيظل كاهن الشعر الأول نعمة مطر ورمزاً خالداً في ذاكرة الأدب الشعبيّ العراقيّ . رحيله ترك فراغاً عميقاً في قلوب محبيه ، إلّا أن كلماته و أشعاره ستظل تضيء دروبهم ، تعبّر عن آلامهم وآمالهم .لقد جسّد نعمة مطر بعبقريته الشعرية صوت الإنسان العراقي البسيط ، المحمل بالهموم و الأحلام ، و الذي لا ينحني رغم قسوة الزمن . و كما قال في أحد أبياته : “بس ما نْنحني لو جار الزمن بيه”، هكذا ستبقى كلماته مرفوعة تحكي عن عراقٍ لا ينكسر و عن روح لا تذبل
رحل الجسد لكن صدى روحه المعجونة بالشعر و الألم ستبقى روحك واقفة بين أعلام ميسان دوماً و أبداً .