مرشدة الصف والذكرى الحزينة
ثامر مراد
جلست في غرفتي متأملاً حديث حفيدي الصغير الذي لم يتجاوز العشر سنوات، وقد كانت عيناه تلمعان بالدموع التي حاول جاهداً أن يخفيها. قال لي بنبرة مشوبة بالحزن: «كل ما قلته لمرشدة صفنا اليوم هو أن الطالب الذي يجلس بجانبي مزّق ورقة من كتاب الرياضيات.» ثم تابع وهو يرتجف: «صرخت في وجهي وقالت: 'اسكت وكل خره!'»
تلك الكلمات البسيطة ولكن الموجعة اخترقت قلبي، وأنا أراه يكافح كي لا ينهار بالبكاء. لم أجرؤ على إكمال الحوار معه؛ شعرت بأن أي محاولة للاستفسار ستدفعه للبكاء الذي لن يتوقف إلا بصعوبة. انسحبت بصمت، مثقلًا بالحزن، إلى مكاني الذي ألجأ إليه كلما استبد بي الألم. جلست في صمت عميق، وضعت رأسي بين يديّ، وأنا أحاول فهم ما أزعجني بهذه الحكاية. على الرغم من بساطتها، إلا أنها حملت ألماً دفيناً لي ولمن هم قريبون مني. فجأة، وجدت نفسي أسافر عبر الزمن إلى عام 1966، حين كنت طالبًا في الصف الثالث الابتدائي. في يوم بارد، طلب مني معلم الرياضيات الوقوف أمام السبورة الخشبية السوداء لأكتب بعض الحروف. ولكن المشكلة كانت أنني، دون أن أنتبه، كنت أضع قطعة من الخبز الجاف في فمي وأمضغها ببطء. المعلم، الذي كان قاسيًا في تصرفاته، لم يتحمل هذا المشهد، فانهال على رأسي بضربات متتالية بيده الجافة القاسية، طالباً مني إخراج اللقمة. شعرت بالذهول وأنا أنظر إليه، لكنني كنت مصمماً على عدم الرضوخ له. مضغت الخبز ببطء حتى ابتلعته بالكامل، وكأنني أردت أن أؤكد له أنني لن أستسلم. حينها، كانت دموعي الساخنة تحرق وجنتي وأنا أكتب الحروف على السبورة، رغم أنني كنت من الطلاب المجتهدين، وكان هو يعلم ذلك.
تلك الذكرى الموجعة لازمتني طيلة حياتي. مع كل يوم أرى فيه الأطفال يذهبون إلى مدارسهم، تعود إلى ذاكرتي تلك اللحظة المؤلمة التي عشتها وأنا صغير. ورغم أنني تجاوزت الستين من عمري، إلا أنني لم أتمكن من التخلص من تلك الذكرى الحزينة.
واليوم، يكرر التاريخ نفسه مع حفيدي. لقد زرعت مرشدة صفه ذكرى موجعة في عقله الصغير، وسترافقه طوال حياته، مثلما رافقتني تلك اللحظة في صغري. لا أستطيع أن ألوم مرشدة الصف على موقفها القاسي، فربما كانت تعيش ظروفًا صعبة في ذلك اليوم، وربما لم تدرك أنها رسمت جرحًا عميقًا في قلب طفل بريء.
كم هي مأساوية حياة الأطفال في هذا الزمن، زمن العراق الجريح، الذي تحاصره الأحزان والدموع. سأحتفظ بهذه القصة، وسأطلب من حفيدي أن يقرأها بعد خمسين عامًا. لعلّ حينها يكون قد أصبح في منصب مرموق، ويكون قادراً على سنّ قوانين جديدة لوزارة التربية، تغير مصير الكثير من الأطفال. وربما، عندها، ستختفي الذكريات المؤلمة من عقولهم، وسنرى جيلاً من التلاميذ يرفعون العراق إلى مصاف الدول المتقدمة في جميع مجالات الحياة..(الحادثة كانت في مدرسة ابن هشام في الدورة/الميكانيك يوم 29/9/2024م)