كان من حق العراقيين أن يطلقوا الإشاعات التي تستهدف النظام السابق، وتتعقب مواطن الضعف فيه، فلم يكن لديهم خيار آخر يعبرون فيه عن سخطهم عليه، وقد أثبتت التجارب أن حرية التعبير سلوك فطري، يولد مع الإنسان، ويكبر معه، ولا ينتهي أو يتلاشى، حتى لو جوبه بالقمع المنظم، أو المنع الشديد، وهناك على الدوام حاجة ملحة للبوح بما يختلج في عقل الإنسان من رأي، بأي وسيلة ممكنة، أو متاحة.
وفي الغالب يعود السلام الذي تنعم به الدول المتقدمة إلى اعترافها بالحق في نقد السلطة، وما تقوم به من نشاطات، ولم يأت هذا الحق إلا بعد نضال طويل، فهو تطور طبيعي، نشأ بعد سلسلة طويلة من المعارك والحروب، والهزائم والانتصارات.
وفي البلدان الفقيرة التي تعاني من أمراض التخلف والقهر والاستبداد السياسي، يصبح البديل الموضوعي لحرية التعبير المفقودة هو الإشاعات، التي لا يعرف على وجه التحديد من يطلقها، ومن يروج لها، وهي تنتشر بين الناس، وتدخل كل بيت، وتصل إلى كل مكان، فالشائعات سلوك سياسي معارض يعبر عن البرم بالحاكم، وأجهزته، وسلطاته.
وكلما كان النقد السياسي المباشر ممنوعاً، أو محرماً، كلما كانت الشائعات أكثر تداولاً، وأعظم انتشارا. أي أنها تنوب عن الأحزاب، والمنظمات الشعبية، وجماعات المعارضة الشرعية، التي يفترض بها مراقبة عمل السلطة التنفيذية.
وفي الأنظمة المتشددة التي يقودها (الحاكم – الإله) يجري تعقب مطلقي الإشاعات أو مروجيها، بل أن النكتة السياسية التي تعبر بأسلوب فكاهي عن حال ما، تقود صاحبها إلى منصة الإعدام لا محالة، فهي سلاح قاتل لا يتساهل فيه النظام الفردي أو الحزبي، أبداً.
ومع ذلك فإن هذه الأنظمة، كانت تهتم كثيراً بهذه الإشاعات، وتحرص على تدوينها، وتحليلها، ليس للاستفادة منها، بل للوصول إلى الجهة التي تقف وراءها، فهي على الرغم من برمها بها، وحنقها عليها، تنقل لها صورة حقيقية عن الاتجاهات السياسية في البلاد، ومدى قدرة المعارضة على اختراق الحواجز الأمنية والحزبية، وقد اتضح مرات كثيرة، أن هذه الإشاعات تنطلق أحياناً من هذه الأجهزة ذاتها، لخدمة السلطة، أو صرف النظر عن حوادث أو إخفاقات أو فضائح تمنى بها.
لكن هذا الأمر اختلف كثيراً في حقبة ما بعد 2003. فباتت حرية التعبير متاحة للجميع، وتلاشت القيود المفروضة على التفكير، وأصبح بإمكان الفرد أن يتحدث بما يشاء عبر بوابة التواصل الاجتماعي، ولم يعد ثمة مبرر لمثل هذه الإشاعات، ولا يبدو أن هناك تفسيراً لها سوى الكذب الصريح. فقد برزت للوجود ظاهرة الذباب الإلكتروني، وهي نسخة معدلة من سيل الإشاعات القديم، وغالباً ما تمارس النقد، أو تلفق القصص، أو تلفت الأنظار إلى فكرة ما، أو تقوم باختلاق الأكاذيب حول قوانين أو مشاريع أو نوايا أو غير ذلك.
إن الصراحة المطلقة التي تتعامل بها الدولة مع الأفراد هي سر قوة أي بلد في العالم.. وإذا ما اعتاد الطرفان على إزالة أي عقبة تحول دون قبول كل منهما للآخر، فإن هذه الدولة تكون قد خطت أول خطوة لها على طريق التقدم.
لا أظن أن من الملائم اليوم أن يلجأ السياسيون الفاشلون، أو الأحزاب التي تواجه شبح الانقراض، أو المنظمات التي تعتاش على هموم الناس، إلى إطلاق إشاعات وأكاذيب يتكفل بها ذبابهم الإلكتروني. فالوضوح والأمانة والصدق هي الوسائل الحقيقية للنجاح، وبخلاف ذلك ليس سوى التخبط والفوضى والخذلان.