الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عن مواطن بسيط بدرجة رئيس

بواسطة azzaman

أذن وعين

عن مواطن بسيط بدرجة رئيس

عبد اللطيف السعدون

كان مؤهلا ليحكم «جمهورية فاضلة» كتلك التي أرادها افلاطون «حكيمة شجاعة عفيفة عادلة، تتحقق لمواطنيها فيها حالة السعادة وضمان العدل»، لكن كان قدره ان يحكم دولة العراق، وفي فترة استثنائية عصيبة إثر رحيل رئيسها عبد السلام عارف في حادثة تراجيدية ستظل موضح حديث الناس زمنا طويلا، هكذا قدر للضابط الكبير عبد الرحمن عارف أن يتصدى لمهمات الحكم، وهو يودع شقيقه الذي كان صنع مع رفيقه عبد الكريم قاسم قبل بضع سنين البداية لدولة جديدة سوف تتناوشها المشكلات، وتتجاذبها المتاعب لعقود من دون أن ترسو على قاعدة واضحة.  كانت عملية انتقال السلطة بين الشقيقين غير سلسة اذ صادف في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة أن كان شاغل موقع رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز، وهو شخصية سياسية ذات تاريخ وخبرة ودراية، موضع رهان الجميع في أن يتولى السلطة الا أن العسكريين كانوا يتوجسون منه، ومن نواياه في اقامة حكم مدني ديمقراطي ينهي سيطرتهم المباشرة على القرار ولذلك أحكموا أمرهم.

إنتقال السلطة

وجاءوا بعبد الرحمن عارف رئيس أركان الجيش الذي لم يكن ليفكر في التصدي لمهمة كهذه، وعرف بزهده في تسنم أي منصب لكنه قبل التحدي في آخر المطاف عندما أدرك أن البلد يريد منه ذلك لتفادي ما قد يفضي الى مخاطر، وأدرك البزاز، من جانبه، ذلك، ووضع يده بيد عارف، وسارا معا، عارف رئيسا للبلاد، والبزاز رئيسا للوزراء، ومرت  عملية انتقال السلطة بسلام.  حكم عبد الرحمن عارف 27 شهرا، في اليوم الأول لمباشرته عمله وقع على مرسومين جمهوريين سيكون لهما وقع ايجابي على مسيرة البلاد، وعلى مسيرته الشخصية أيضا، عفا عن جميع السجناء السياسيين، وأوقف ملاحقة الناشطين بمختلف توجهاتهم، وشكل مجلسا رئاسيا استشاريا ضم عددا من رؤساء الوزارات السابقين وشخصيات سياسية بعضها كان محسوبا على المعارضة، وقد اعتبرت هاتان الخطوتان مقدمة للتوجه نحو بناء حياة سياسية طبيعية بعد سنوات من القمع والكبت والضغوط المختلفة التي عانى منها العراقيون.

كانت الخطوة التالية العمل على احلال السلام في شمال العراق، ووضع أسس لحل المشكلة الكردية على اساس اقرار الحقوق القومية، وضمن هذا الإطار وجد عارف أن لا بد من اجراء سريع يفتت الألغام التي كانت تسود العلاقة بين حكومة بغداد والحركة الكردية التي يقودها مصطفى البارزاني، وكان أن طار على رأس فريق من مساعديه الى قرية كلاله القريبة من أربيل حيث مقر اقامة البارزاني، وجرت بين الاثنين مباحثات أفضت لاحقا الى الاعتراف بالحقوق القومية للأكراد، واحلال السلام في المنطقة.

مناوشات بالسلاح

ومن القضية الكردية الى مشكلة الحدود مع إيران التي كانت على الدوام بؤرة للتوتر الذي يصل أحيانا الى مناوشات بالسلاح بين جنود البلدين، مرة أخرى فكر عبد الرحمن عارف ان لا بد من خطوة صادمة توفر مناخا من الود والجيرة الحسنة بين البلدين اللذين تربط بينهما أكثر من صلة ورابطة، وفي لحظة تأمل حسم أمره وقرر زيارة طهران والالتقاء بالشاه محمد رضا بهلوي، ومن دون ترتيبات بروتوكولية مسبقة للزيارة، وعندما صعد عارف الى الطائرة مع بعض وزرائه لم يكن أحد منهم يعلم بوجهة الرحلة سوى الطيار ومساعده، ولم يعلم شاه ايران نفسه بخطة الرئيس العراقي لزيارته الا حين اقتربت الطائرة من الحدود الايرانية، وابلغ العراق حكومة طهران بزيارة الرئيس، وعندما التقى الاثنان قال عارف للشاه ان أيا من البلدين الجارين غير قادر على حمل نفسه والذهاب الى قارة أخرى، ولا بد مما ليس منه بد، أن تقوم علاقة حسن جوار بين البلدين كي يعيش الشعبان بسلام، وهذا ما حصل بعد ذلك. وثمة حكايات لا يتسع لها مجال مقالة كهذه تروي الكثير عن زهد عارف ونزاهته، وتواضعه ووداعته، بعضهم وضع كل هذه المزايا في خانة ضعف الشخصية لكن ما كشفته الشهور السبعة والعشرون اعطتنا صورته الحقيقية فهو لم يكن ضعيفا، بل كان سمحا، لم يستخدم العصا الغليظة في تعامله مع معارضي حكمه، وحتى الذين تآمروا ضده لم ينتقم منهم، وانما عفا عنهم، وسمح لمن هرب منهم الى الخارج بالعودة، لكن بعض مساعديه غدروا به، وشاركوا في الانقلاب عليه، وفرضوا عليه أن يترك البلاد منفيا. ويعرف عن عارف أنه، مع جذوره العسكرية، كان يحمل مسحة ليبرالية هي التي ميزت حكمه عن سواه من الرؤساء الذين سبقوه أو لحقوا به، وقد كانت فترة رئاسته أشبه بفترة استطاع فيها العراقيون التقاط أنفاسهم بحرية وبكرامة.     وفي سنواته الأخيرة، قبل أن يغيب في مثل هذه الأيام من عام 2007، اعتزل السياسة كما اعتزل الناس لكنهم ظلوا يذكرونه بالخير فهو الرئيس الذي كان يعنبر نفسه مثلهم، مواطنا بسيطا وليس رئيسا كما قال مرة.

 


مشاهدات 74
أضيف 2024/08/31 - 12:38 AM
آخر تحديث 2024/09/01 - 2:15 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 63 الشهر 63 الكلي 9988685
الوقت الآن
الأحد 2024/9/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير