الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشعوذة‭ ‬الحلال

بواسطة azzaman

الشعوذة‭ ‬الحلال

محمد زكي ابراهيم

 

‭ ‬الآن‭ ‬فقط‭ ‬أدركت‭ ‬لماذا‭ ‬حدثت‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬التقليدي‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬العربية،‭ ‬ولماذا‭ ‬هجر‭ ‬الشعراء‭ ‬العمود‭ ‬والتفعيلة،‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬يكترثون‭ ‬للإيقاع‭ ‬الشعري،‭ ‬أو‭ ‬يلقون‭ ‬بالاً‭ ‬لمعنى‭ ‬الجملة،‭ ‬أو‭ ‬يهتمون‭ ‬بالتركيب‭ ‬اللغوي،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأمور‭!.‬

‭ ‬كنت‭ ‬لوقت‭ ‬طويل‭ ‬أتساءل‭ ‬في‭ ‬سري،‭ ‬لماذا‭ ‬اختار‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر،‭ ‬الاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬محكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالنسيان،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬العبثية‭ ‬هي‭ ‬سمة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وطريقة‭ ‬أهل‭ ‬العصر،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مورد‭ ‬ومحفل،‭ ‬لكنني‭ ‬أدركت‭ ‬مؤخراً‭ ‬كنه‭ ‬هذا‭ ‬التحول،‭ ‬وعرفت‭ ‬لماذا‭ ‬هجر‭ ‬الناس‭ ‬القريض،‭ ‬والفضل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬اجتاحني‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرة‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬شاعرة‭ ‬اسبانية‭ ‬اسمها‭ (‬نورية‭ ‬كونزاليس‭)‬،‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ (‬أضرار‭) ‬الشعر‭ ‬بمعناه‭ ‬المألوف،‭ ‬فقالت‭ ‬أنه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ (‬الشعوذة‭) ‬اللفظية‭ ‬واللغوية،‭ ‬هدفها‭ ‬إشاعة‭ ‬السحر،‭ ‬وإثارة‭ ‬المشاعر،‭ ‬لدى‭ ‬المتلقي‭. ‬وغرضها‭ ‬التلاعب‭ ‬بالمعاني‭ ‬والمناورة‭ ‬بالكلمات،‭ ‬لدى‭ ‬السامع،‭ ‬وتعمل‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬العقول،‭ ‬وتشكيل‭ ‬الوعي،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس‭.‬

‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬شك‭ ‬عندي‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬أشارت‭ ‬إليه‭ ‬هذه‭ ‬السيدة،‭ ‬هو‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬برحنا‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬نتداوله‭ ‬في‭ ‬المجالس‭ ‬والمنتديات‭ ‬والمقاهي‭ ‬والمدارس‭ ‬والأسواق‭ ‬والمجالس‭ ‬النيابية‭ ‬أحياناً،‭ ‬ونحفظه‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الانتشار،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬خطره‭ ‬عند‭ ‬طبقة‭ ‬أو‭ ‬ملة‭ ‬أدبية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭.‬

هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬أداة‭ ‬طيعة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ،‭ ‬أو‭ ‬عقيدة،‭ ‬أو‭ ‬سلوك،‭ ‬أو‭ ‬فكر،‭ ‬أو‭ ‬ثورة،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأمور‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الإيحاء‭ ‬والهمس‭ ‬والتورية‭ ‬و‭(‬الدغدغة‭) ‬هي‭ ‬أدوات‭ ‬كبار‭ ‬شعراء‭ (‬الشعوذة‭) ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬وهي‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬الشعر،‭ ‬أو‭ ‬فارقت‭ ‬بعض‭ ‬أغراضه،‭ ‬فقد‭ ‬افتقد‭ ‬عنصر‭ ‬الجاذبية‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬أكتمكم‭ ‬أنني‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الشعوذة‭ ‬التي‭ ‬نوهت‭ ‬بها‭ ‬السيدة‭ (‬نورية‭)‬،‭ ‬وأجد‭ ‬أنها‭ ‬حلال‭ ‬زلال،‭ ‬لا‭ ‬شائبة‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬إثم،‭ ‬لكن‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬يخلو‭ ‬منها،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبعث‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬القارئ‭ ‬النشوة،‭ ‬ولا‭ ‬يدفع‭ ‬به‭ ‬نحو‭ ‬التغيير،‭ ‬لن‭ ‬يناله‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬إلا‭ ‬الثواب،‭ ‬ولن‭ ‬يتعرض‭ ‬للمسائلة‭ ‬والحساب‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬أعلم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الشعراء‭ ‬الجدد‭ ‬سعداء‭ ‬بهذه‭ ‬الصفة‭ ‬أو‭ ‬لا،‭ ‬وهل‭ ‬يعدونها‭ ‬مدحاً،‭ ‬أو‭ ‬يحسبونها‭ ‬ذماً،‭ ‬فما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الأزمان‭ ‬السابقة‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬عليهم،‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يحملون‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬ارتكاب‭ ‬المعاصي‭ ‬وإتيان‭ ‬الذنوب،‭ ‬لأن‭ ‬عباراتهم‭ ‬لا‭ ‬تتغلغل‭ ‬في‭ ‬الوجدان،‭ ‬ولا‭ ‬تغوص‭ ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬وقد‭ ‬حملت‭ ‬إلي‭ ‬أقوال‭ (‬نورية‭) ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العذر،‭ ‬وجعلتني‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أصدقائي‭ ‬الشعراء‭ ‬المحدثين،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أخشى‭ ‬على‭ ‬عقلي‭ ‬وقلبي‭ ‬أن‭ ‬يتعرضا‭ ‬لما‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لهما‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الآثام‭.‬

ولأنني‭ ‬حريص‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬أصدقائي‭ ‬من‭ ‬الجنسين،‭ ‬ولا‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يصيبهم‭ ‬مكروه‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬الفانية،،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الدار‭ ‬الآخرة،‭ ‬فإنني‭ ‬أدعوهم‭ ‬جميعاً‭ ‬أن‭ ‬يتزودوا‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الشعوذة،‭ ‬ويتجملوا‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬السحر،‭ ‬ولا‭ ‬يأنفوا‭ ‬من‭ ‬البوح‭ ‬بمكنونات‭ ‬أرواحهم،‭ ‬وخلجات‭ ‬نفوسهم،‭ ‬فمثل‭ ‬هذه‭ ‬الهمهمات‭ ‬هي‭ ‬مفاتيح‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬السعادة،‭ ‬والولوج‭ ‬إلى‭ ‬الأفئدة،‭ ‬ومخاطبة‭ ‬المشارب‭ ‬والأذواق،‭ ‬وعليهم‭ ‬أن‭ ‬يصبروا‭ ‬على‭ ‬محنة‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬فلا‭ ‬يظلم‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬أحد،‭ ‬وهو‭ ‬الغفور‭ ‬الرحيم‭.‬


مشاهدات 315
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/08/17 - 2:55 PM
آخر تحديث 2024/11/22 - 9:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 302 الشهر 9426 الكلي 10052570
الوقت الآن
الجمعة 2024/11/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير