الآن فقط أدركت لماذا حدثت الثورة على الشعر التقليدي في بلادنا العربية، ولماذا هجر الشعراء العمود والتفعيلة، ولماذا لم يعودوا يكترثون للإيقاع الشعري، أو يلقون بالاً لمعنى الجملة، أو يهتمون بالتركيب اللغوي، أو غير ذلك من الأمور!.
كنت لوقت طويل أتساءل في سري، لماذا اختار الشباب في هذا العصر، الاتجاه إلى شكل محكوم عليه بالنسيان، رغم أن العبثية هي سمة ما بعد الحداثة، وطريقة أهل العصر، في كل مورد ومحفل، لكنني أدركت مؤخراً كنه هذا التحول، وعرفت لماذا هجر الناس القريض، والفضل في هذا الوعي الذي اجتاحني على حين غرة يعود إلى شاعرة اسبانية اسمها (نورية كونزاليس)، تحدثت عن (أضرار) الشعر بمعناه المألوف، فقالت أنه نوع من (الشعوذة) اللفظية واللغوية، هدفها إشاعة السحر، وإثارة المشاعر، لدى المتلقي. وغرضها التلاعب بالمعاني والمناورة بالكلمات، لدى السامع، وتعمل بذلك على تغيير العقول، وتشكيل الوعي، وتعزيز الثقة بالنفس.
ليس ثمة شك عندي أن الشعر الذي أشارت إليه هذه السيدة، هو الشكل الذي ما برحنا حتى اليوم نتداوله في المجالس والمنتديات والمقاهي والمدارس والأسواق والمجالس النيابية أحياناً، ونحفظه عن ظهر قلب، أي أنه من الانتشار، بحيث لا يقف خطره عند طبقة أو ملة أدبية أو سياسية.
هذا الأمر يجعل منه أداة طيعة في يد من يريد الدعوة إلى مبدأ، أو عقيدة، أو سلوك، أو فكر، أو ثورة، أو غير ذلك من الأمور.
ولا شك أن الإيحاء والهمس والتورية و(الدغدغة) هي أدوات كبار شعراء (الشعوذة) من العصر الجاهلي حتى يومنا هذا، وهي إذا ما غابت عن الشعر، أو فارقت بعض أغراضه، فقد افتقد عنصر الجاذبية.
ولا أكتمكم أنني أميل إلى هذه الشعوذة التي نوهت بها السيدة (نورية)، وأجد أنها حلال زلال، لا شائبة فيها ولا إثم، لكن الشعر الذي يخلو منها، ولا يستطيع أن يبعث في نفس القارئ النشوة، ولا يدفع به نحو التغيير، لن يناله في الآخرة إلا الثواب، ولن يتعرض للمسائلة والحساب.
ولا أعلم إن كان الشعراء الجدد سعداء بهذه الصفة أو لا، وهل يعدونها مدحاً، أو يحسبونها ذماً، فما قيل في الشعر في الأزمان السابقة لا ينطبق عليهم، وهم لا يحملون المرء على ارتكاب المعاصي وإتيان الذنوب، لأن عباراتهم لا تتغلغل في الوجدان، ولا تغوص في العمق، وقد حملت إلي أقوال (نورية) الكثير من العذر، وجعلتني أقرب إلى أصدقائي الشعراء المحدثين، ولم أعد أخشى على عقلي وقلبي أن يتعرضا لما لا طاقة لهما به من الآثام.
ولأنني حريص على مستقبل أصدقائي من الجنسين، ولا أتمنى أن يصيبهم مكروه في يوم من الأيام، سواء في هذه الدنيا الفانية،، أو في الدار الآخرة، فإنني أدعوهم جميعاً أن يتزودوا بشيء من الشعوذة، ويتجملوا بقدر من السحر، ولا يأنفوا من البوح بمكنونات أرواحهم، وخلجات نفوسهم، فمثل هذه الهمهمات هي مفاتيح الوصول إلى السعادة، والولوج إلى الأفئدة، ومخاطبة المشارب والأذواق، وعليهم أن يصبروا على محنة يوم القيامة، فلا يظلم عند الله أحد، وهو الغفور الرحيم.