الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شعائر عاشوراء في عيون غربية

بواسطة azzaman

أذن وعين

شعائر عاشوراء في عيون غربية

عبد اللطيف السعدون

يروي الضابط البريطاني توماس لييل الذي عمل في الادارة التي أقامها الانجليز في العراق في العقد الثاني من القرن الراحل مشاهداته لطقوس عاشوراء في مدينة كربلاء عندما دعاه «كليدار» الحضرة الحسينية الى هناك ليلة العاشر من محرم، انه اتخذ مكانه مع آخرين من حول منصة مرتفعة مغطاة من أحدى ناحيتيها، ومرت دقائق قبل أن يصل الى مسامعهم وقع خطوات متتابعة لحشد كبير من البشر، وشرعت ترتسم على الجدران ومضات ضوء انعكاسا لمشاعل قادمة من الخارج، وشيئا فشيئا امتلأ الصحن بالناس، وظهرت اربعة مشاعل مجمرة ضخمة على نهايات عصي طويلة، ومن حول كل مجمرة تلتف مجموعة من «السادة» من أعمار مختلفة ، بعضهم صبيان لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة ، وبعضهم تجاوزت أعمارهم الستين وقد انحنت ظهورهم، وأخذوا يشقون طريقهم بصعوبة، وقد وضعوا «العمامة» الخضراء على رؤوسهم.

وتابع لييل روايته: «فجأة نهض صبي لا يتجاوز عمره الثالثة عشرة من بين الجمع ليقف على المنصة، وبدأ، وقد بدا عليه الانفعال، باستعراض وقائع مقتل الامام الحسين بطبقة صوتية عالية لكنها حملت طابع الطفولة البريئة، وخطر في بالي في تلك اللحظات أن اختيار الصبي لأداء هذا الدور تم لجمال صوته، وأدركت من خلال ذلك أن اللغة العربية هي أكثر اللغات موسيقية وعذوبة.

وحينما كان الصبي يتوقف في كل مرة يستعيد فيها أنفاسه كان وقع اللطم على الصدور من قبل الجمهور المحيط يتصاعد، وكنت أرى من خلال توهج أضواء المشاعل المختلط بالدخان مئات الأذرع الممتدة نحو السماء، وأن ألحظ أولئك الرجال والصبيان، وقد كشفوا عن صدورهم تعبيرا عن تكريمهم لشهدائهم، فيما كانت نبرات النواح الحزينة تنطلق من أفواه نسائهم اللواتي كن يتجمعن على مقربة منهم.

وقد راقبت المشهد الماثل أمامي بتمعن لأصل الى قناعة مفادها ان ما اشاهده لم يكن يعكس تطرفا مصطنعا، على العكس فقد كان يتسم بقدر كبير من العفوية والتلقائية المعبرة عن ايمان مطلق وحماس ديني لو قدر لهما أن يوجها نحو القنوات الصحيحة والصحية لغيرا مجرى العالم»!

يضيف لييل: «ان هؤلاء الناس ليس لديهم ميل عفوي للتدين فحسب لكنهم ايضا تواقون للتعبير عن مكنونات أنفسهم رغم انهم محكومون بنظام عقيدي صارم يمتلئ بالقيود والمحرمات ، وليس غريبا انهم في بعض الأوقات ، وخاصة خلال شهر محرم ، يسمحون لأنفسهم ان يمارسوا سلوكيات قد تبدو للمراقب الخارجي انها خارجة عن المألوف، وما يثير الشفقة والرثاء أنهم يجهلون السر الذي يدفعهم لسلوكيات كهذه فيما يقر علماؤهم أن ممارسة تلك الشعائر على هذا النحو المتطرف من الحزن والجلد الذاتي أمر محرم على نحو مطلق لكنهم لا يستطيعون الافصاح عن ذلك لتابعيهم لأن ذلك يجعلهم يحسرون ولاءهم وطاعتهم وما يدره ذلك عليهم من منافع وامتيازات».

جلسة خاصة

ويشير توماس لليل الى أن المرجع الأعلى آنذاك كان صارحه بأسى واضح في جلسة خاصة جمعت بينهما أنه يفقد السيطرة على هؤلاء الناس في مثل هذه الأمور ولا يستطيع كبح جماحهم مؤكدا «أن الامساك بموجات البحر أمر أسهل من التأثير على عقول هؤلاء الذين يعتبرون تلك السلوكيات طاعة لله»، وهذه الفكرة تقف وراء قناعة غالبية المشاركين في تلك الشعائر، ونقل عن أحد المشاركين قوله ان فعله هذا يوفر له فرصة نادرة ليغفر الله له ما ارتكبه في حياته من اخطاء وما اعتوره من مواطن ضعف

ويعكس ذلك حالة من «المد الروحي» خاصة وأن الغالبية العظمى من البشر تتعلق في أعماقها بقيم عليا تعتبرها تستحق المعاناة وصولا الى تحقيقها، وليس الأمر مجرد قصاص لخطيئة مرتكبة او تطهير للذات من اثم.

ولاحظ لييل ان الكثير من المسلمين وبخاصة الشباب منهم يدركون جوهر الدين الحقيقي، وينظرون الى ممارسة الشعائر الدينية على أنها اختبارات ربانية على المؤمن أن يتحملها برضا وسعادة، وهذه الحالة الروحية تمنحهم قيمة كبيرة، وهم يذكرون الله ليس في مراسيم الوضوء والصلاة فحسب انما في كل مفردات الحياة اليومية، ويرددون «اسم الله» قبل كل شيء وبعد كل شيء، وهنا يكشف عن رغبة شاملة لمحبة الله وطاعته وطلب رضاه بالإكثار من الدعاء والصلاة وأداء شعائر محرم، وهنا يمكن للمرء الامساك بواحدة من ميزات الشخصية العربية وقيمها الخالصة.

 


مشاهدات 128
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/07/13 - 1:22 AM
آخر تحديث 2024/07/16 - 3:54 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 83 الشهر 6856 الكلي 9368928
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/7/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير