الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أَيْنَ اختفت الكلبة الهاربة ؟

بواسطة azzaman

أَيْنَ اختفت الكلبة الهاربة ؟

علي الجنابي

 

   تكادُ تكونُ الطائرةُ هي الموضِعُ الوحيد الذي يَهربُ بي، صوبَ خَلَجَاتٍ مُخجلةٍ في الفكرِ أراها جليَّاً تَشهبُ بي. فما إن أقعدُ ببَطنِها مُنبَهراً وبلعابٍ سيّالٍ لتقنيةٍ فيها تَحلِبُ بي، حتى تنهمرُ ذيكَ الخَلَجاتُ مُجَلجِلةً تندبُ بي. ثُمَّ ما إن تَقلعُ من مَدرجِها حتى تَختمرُ رُغمَ أنفي خَلَجةٌ تُصَرِّحُ بأنِّي مِن أمَّةٍ عالةٌ على أممٍ، وتيكَ خَلجَةٌ ما فتأت تثلبُ بي. ثمَّ كلمَّا تصَّاعدتِ الطائرةُ في جوِّ السماء تَصَّاعدَت تيكَ الخلجاتُ وتصَاعدَ عويلُها يهتفُ بي، بأنَّه ليسَ لي يدٌ في صنعِ سلكٍ أو جُزءٍ من ذي طائرةٍ وتلكَ مَعَرَّةٌ تضربُ بي. ثُمَّ تأتيَ الخَلجةُ الطَّامةُ بأنَّ كلَّ أجزائِها صُنِعَت بأيادٍ هي بربِّ السَّماءِ كافرةٌ، وهذا عارٌ يَذهبُ بي، الى خَلجةٍ أخرى هي الأخزَى بأنَّ أجهزةٍ ملاحةٍ جَوية في المطار قد خلقَتها أيدٍ هيَ كذلكَ مِن ربِّ السَّماءِ نافرة، وذاكَ شَنارٌ يلهبُ بي. ثُمَّ...  أرانيَ أتأمَّلُ وُجوهَ بني قومي من مسافرينَ على مَتنِها وذلكَ فضولٌ صبيانيٌّ مَعيبٌ يلعبُ بي، فأرَى بعضَها وجوهاً غَافيةً، وشلالُ نَومِها يكادُ يَسحبُ بي، وبعضَها وجوهاً جافيةً وعَلاماتِ انتفَاخِها بتَنَطُّعٍ وخُيلاءَ يَقطبُ بي، وكأنَّ أحدَهُم هوَ الصَّانعُ لمنظومةِ (هَيدروليك) الطَّائرة وتلكَ خَيلاءُ جوفاءُ الى السَّأمِ تغرُبُ بي، بينَما هوَ في حقيقِ الأمرِ لا يَعلمُ مِن ذي دُنيا دائِرةٍ، سوى الثّريدَ وهزَّ العُرجونِ بعُودٍ من جريد لينالَ تُمَيراتٍ بائِرة، وذاكَ خطبٌ سقيمٌ يَخطبُ بي.

ملل خاطئة

  ثمَّ أرانيَ أنظرُ من نافذةِ الطَّائرة بهوسٍ غريبٍ يرغَبُ بي، فأرى مَيادينَ أمتي خربةً غيرَ عَامِرة بوَجعٍ شديدٍ يقلِبُ بي، وأرَى فَدَادِينَها ثَاويةً وتَثُجُّ بالتَّلافحِ بين مِللِ دينٍ خاطئةٍ، ومذاهبَ دَجَلٍ واطِئَةٍ، وجائرةٍ كُلِّها وكاذِبة. ماخلا ملَّةَ أبينا إبراهيمَ وتلكَ مِلَّةٌ بمحجَّةٍ بيضاءَ زكيَّةٌ غالبةٌ وتَشهبُ بي. وأرى بَساتِينَها خاويةً وتَعُجُّ بالتَّناطحِ بين ثيرانٍ قَبَليةٍ وعُجولٍ عَشائرية ترَاها لأهلِ السَّذاجةِ نَادبَة. تناطِحٌ مجٌّ يصخبُ بي. ثمَّ أرى سَلَاطِينَها عَاويَةً وتأجُّ بالتَّباطحِ بين أحزابِ صَعلكةٍ سِياسيَّةٍ مِن سبلِ الأصالةِ هَارِبَة، ولأهلِ السَّفاهَةِ جَاذِبة، وذاكَ تصعلكٌ يَعصِبُ بي.

   ثمَّ جَفَلتُ فُجأةً من جليسٍ هولنديٍّ بالجَنبِ في ذيكَ الطَّائرةِ السَّاربةِ، يقولُ وهوَ يَجذبُ بي: «أظنُّكَ لن تَرى في فَدَادِينَ أمَّتِكَ طَوَاحِينَ، أبداً ولا مَوَازِينَ تَزنُ رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ بمَهابَةٍ». قولُ هذا الهولنديِّ ما إنفكَّ يعشُبُ بي. لكنِ الحقُّ معَه رُغمَ أنَّ قيلَهُ ثقيلٌ ويَقشِبُ بي، لأنِّي لن أجدَ في دروبنا رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ أفخرُ بهِ ويشهبُ بي، فأذنابُ السَّلاطينَ: إمَّا صَلبوهُ في سَاعةٍ غَاربةٍ، إمَّا حَبسُوهُ في خَرابةٍ غَاضِبةٍ، وإمَّا صَيَّرُوهُ خَبَلاً طَوَّافًاً في الدُّروبِ كمثلِ كَلبةٍ من سَكارى الحَيِّ في لَيلٍ شتويٍّ مَذعورةٍ وهَاربَة. فلنَبحَثْ معاً بعيونٍ هيَ للدَّمعِ ساكبةٍ، عنِ كلِّ كَلْبَةٍ عَلّامةٍ لكنَّها مذعورةٌ وهَاربة، فلا نَجاةَ لنا من كُلْبَةِ الدَّهرِ ولا قيمةَ لنا فيهِ إلّا في احترامِ وتقديرِ الكَلبةِ الهَاربةِ.

 (الكَلْبَةُ؛ الشّدَّةُ مِن كلِّ شيءٍ)

 

 

 


مشاهدات 396
الكاتب علي الجنابي
أضيف 2024/06/30 - 4:22 PM
آخر تحديث 2024/12/04 - 6:27 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 434 الشهر 1734 الكلي 10057829
الوقت الآن
الأربعاء 2024/12/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير