كلام أبيض
ما أكثر الموتى بين الأحياء
جليل وادي
للصحافة حكايات بعضها طريف والآخر مؤلم، والمشكلة أن ليس في الوقت متسع لتدوينها، ومن الحكايات ما هو اجتماعي والكثير منها سياسي، نعاني عوزا مستديما بالاجتماعي، وهذا العوز ليس جديدا، بل هكذا هو ديدن تاريخنا، وكأننا بلا تاريخ اجتماعي، بينما لدينا الوافي من التصورات عن تاريخنا السياسي.
ومع عدم كفاية الذي وصلنا عن تاريخنا الاجتماعي لتشكيل معرفة موضوعية، لكن تفكير من كتبه ينم عن وعي بأهمية ما قام به للمستقبل، ربما بعض ما دوّنه قد يبدو سطحيا او غير ذي قيمة في سياقه حينذاك، لكنه زودنا بإشارات نستنبط منها ما سكت عنه، فلكل زمن سلطة تمارس سطوتها علينا، فتخيم على صدورنا حتى يصعب علينا التنفس، فما بالك في التعبير عن الآراء، او قول الحقيقة للناس، فمازلنا ندور حول أنصاف الحقائق بسبب ملوك الشمع .
قد لا يستهوينا ما يُكتب في الصحف، لاسيما الذي يتناول ما هو يومي وينتهي بانتهاء الحدث، أي تلك المواد سريعة التلف التي بعضها أسرع في التلف من لحم السمك، لكنها مهمة جدا، لأنها ستغدو مستقبلا مصدرا من مصادر كتابة التاريخ.
استمتع كثيرا بقراءة الحكايات التي يرويها الزملاء عن تجارب سابقة في العمل الصحفي، وأعرف ان المخزون الذي لديهم ويستحق النشر أكثر مما نشروه، لكننا نحن الممارسون لمهنة المتاعب دائما ما نعمل تحت ضغط الوقت، وفي مزاج غير رائق على الدوام، لذلك يعاني غالبيتنا من أمراض القولون والضغط والسكر، ومع ذلك لا يتردد في الكتابة الذين آمنوا بان الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة، ومن جانبي مازالت في طور تخزين الحكايات بانتظار فسحة من الوقت لكتابتها ونشرها، ولا أظن إتيان لهذه الفسحة بالرغم من ادارتي المتزمتة للوقت. وغالبية حكاياتي من التي تصنف على السياسة، لذلك يتعذر علّي روايتها بأسماء أبطالها وجلهم من ملوك الشمع، لذلك اعذروني عن ذكر الأسماء.
التقيت قبل ما يقرب العقدين وفي وقت متقارب بشخصيتين في مناصب حكومية رفيعة جدا، فاستقبلني الأول بكامل قيافته اللائقة بمنصبه، وبطريقة رسمية جدا، لكنه لم يكن متحدثا لبقا، ما لفتني في تلك المقابلة احترافية فريق العلاقات العامة فقط، واستقبلني الثاني بلباس شعبي (دشداشة وشحاطة) مع ان اللقاء رسمي ومتفق على موعده، حتى حار المصور الذي يرافقني كيف يلتقط له صورة، فلا يمكن نشر المقابلة من دون صور، ما شدني في مقابلته تنظيراته السياسية التي تستشف منها عبقرية قيادية يمكنها النهوض بالبلاد في مدة وجيزة، لكنه عندما اعتلى المنصب الأول في الدولة فشل فشلا ذريعا، حتى صار مثار تندر أبسط الناس، فنسينا ما قاله، ولم يعلق في ذاكرتنا سوى ان فريق علاقاته العامة نسي أن يقدم لنا كوبا من الشاي او كأسا من العصير، فقضينا طريق العودة بين ضاحكين ومستغربين، الاثنان الآن في عداد الموتى وان كانت أنوفهم تستنشق الهواء، وما أكثر موتى العملية السياسية بين الأحياء.
دعاني أحد مدراء المؤسسات الذي أخبرني حينها انه يداوم في دائرته (13) يوما والباقي من الشهر يقضيه في بيته خارج البلاد، وانه يأتي من المطار مباشرة الى المؤسسة ومنها الى المطار، ولا يدري عن بغداد شيئا سوى ما تتناقله وسائل الاعلام، جاءت الدعوة للتداول في اصدار مطبوع، فلم اقتنع بعرضه وطريقة مداولته غير المتبلورة، وذهنه المشتت وفكره المفتقد للتنظيم، وضعف قدراته التعبيرية، فاعتذرت عن استلام المسؤولية المقترحة لأسباب تتعلق بشخصه وأخرى بظروف المرحلة، في يوم وليلة على قول وردة الجزائرية، نصّبوه ملكا، دخت وغسلت يدي (بسبع صابونات)، بينما كان الجميع فرحا بهذا الانتقاء، وما هي الا سنوات حتى رجع خلسة من حيث أتى، يتلفت يمينا ويسارا خوفا من ملوك الشمع الذين أجلسوه على الكرسي.
jwhj1963@yahoo.com