محمد زكي ابراهيم
أكثر ما يثير الأسى عندي أن يلجأ (الخاصة) إلى الغلظة في مواضع لا تستدعي الغلظة، وإلى الخشونة في أمور لا تحتمل الخشونة.
ومازلت أظن أن مثل هذا السلوك لا يجوز على رموز النهضة. فهم يمثلون بحكم مواقعهم هذه حصانة من الإسفاف، وعصمة من الابتذال، ونجاة من الإثم.
مثل هذا الأمر هو الذي خلق الخصومات بين أهل الفكر، وهو الذي بعث المساجلات بين قادة الرأي، في أكثر من مكان وزمان. وربما كان في بعض وجوهه إيجابياً. فالمعارك الأدبية التي اندلعت في القرن الماضي مثلاً، هي التي خلقت مناخاً تسبب في انتعاش الصحافة، وازدهار سوق الكتب، وأوجد إقبالاً واسعاً على الندوات والمجالس، في بلادنا العربية.
وكان على رأس من خاضوا هذه المعارك، وانغمسوا في هذه الصراعات، أشخاص على قدر كبير من الأهمية، عرف عن هؤلاء النقد الجارح، والهجوم العنيف، على من يخالفهم في الرأي، أو يناقضهم في المبدأ، وكانوا لا يتساهلون في من يخرج على قواعد اللغة، أو ثوابت السياسة، أو قوانين التاريخ. ويفترضون في أنفسهم الوصاية على الغير، والقوامة على الرعية.
ومن أشهر هؤلاء الذين افتعلوا الخصومات الأدبية الدكتور زكي مبارك، وكان رجلاً شجاعاً صريحاً، لا يخاف في الأدب والسياسة لومة لائم. حتى أنه خاطب أستاذه طه حسين ذات يوم على مدرج الجامعة قائلاً ” لا تتعالوا علينا، ففي وسعنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين!”.
ومثل هذا الخطاب الذي لا يخلو من التجريح هوى به إلى أسفل وحرمه من التدريس في الجامعة المصرية مع أنه حاز على ثلاث شهادات دكتوراه. ولم يكتف مبارك بهذا الصنيع فقد ابتدأ رسالته الجامعية في السوربون بفصلين نقض فيهما آراء رئيس لجنة امتحانه المسيو “مرسيه”! وهم بمهاجمته في الأيام الأولى لابتداء درسه، رغم نصيحة البعض له. ومع ذلك لم يبخل عليه الرجل بالشهادة، وهذا نوع من النبل لا يتوفر إلا عند أعاظم الرجال.
وأورد الأستاذ جعفر الخليلي نتفاً من سيرة الدكتور مصطفى جواد، اتسمت بقدر غير قليل من القسوة والشدة. وروى كيف أنه كان صعب المراس يوم كان معلماً في المدارس الابتدائية. فنال تلامذته منه صنوف العذاب.
ومن هؤلاء المساكين (خلدون ساطع الحصري)، فلم يتورع عن ضربه مع أن أباه كان على رأس وزارة المعارف يومئذ، وشغل منصب معاون الوزير ثم مدير عام الوزارة ومراقب التعليم العام. وهو الذي وضع المناهج وجلب المعلمين ورسم سياسة العملية التربوية. ومن المؤكد أن الطفل شكا لأبيه ما لحقه من أذى. لكن الأب لم يتدخل، ولم يكترث للموضوع.
على أن الحصري نفسه لم يكن يخلو من التصرف بذات الطريقة مع من يخالفونه في الرأي، وانتقد معظم – إن لم يكن جميع – من لقيه من العراقيين حينما حل في بلادهم، لسبب أو لآخر. وانتهى البعض من هذه المواقف بالقطيعة.
ومن المفارقات أن مصطفى جواد تعرض لمثل هذا الصنيع حينما أصبح أستاذاً كبيراً.
وفي إحدى المرات وجه نقداً لاذعاً للشاعر معروف الرصافي وهو جالس يستمع إليه، ولم يدر أنه اسرف في كلامه، حتى اثار امتعاض الأخير، فوجه له كلمة نابية بالعامية أشد وقعاً، وأكثر إيذاءً من كلمة (صه) العربية!.
ولست أجد في ذلك وغيره إلا اعتداداً زائداً بالنفس لا يتناسب مع المكانة العلمية لصاحبها. وكان من الأفضل لو اتسع صدره، وهدأت روحه، وانفرجت أساريره. فذاك لعمري أفصح في الإشارة، وأجدى في الإقناع، وأبلغ في الرد.